في الوقت الذي تواصل فيه مصر جهودها للخروج من نفق التضخم، تتجه الأنظار نحو قطاع الشركات الناشئة باعتباره الطريق لتعويض الانكماش في بعض القطاعات التقليدية مثل العقارات، التصنيع، والسياحة.
وتُظهر الشركات الناشئة مرونةً لافتة، بل وتقدّم نفسها كقاطرة مستقبلية للنمو الاقتصادي.
تمويل مستمر رغم التحديات: أرقام 2024 و2025
وفقاً لبيانات منصة MAGNiTT وتحديثات من الهيئة العامة للاستثمار، بلغ حجم التمويل الذي تلقته الشركات الناشئة المصرية في عام 2024 حوالي 461 مليون دولار، منخفضاً من 545 مليون دولار في 2023.
ورغم التراجع الطفيف، إلا أن عام 2025 شهد بداية تعافي واضحة، حيث جمعت الشركات الناشئة نحو 226 مليون دولار خلال النصف الأول فقط من العام، ما يشير إلى إمكانية تجاوز إجمالي تمويل 2023 بحلول نهاية العام.
من حيث عدد الصفقات، بلغ عدد الاستثمارات المعلنة حتى يونيو 2025 نحو 74 صفقة، بمتوسط بلغ 3.05 مليون دولار للصفقة.
ويستمر تمركز هذه الاستثمارات في ثلاث قطاعات رئيسة:
– التكنولوجيا المالية (FinTech): 33 % من إجمالي التمويل
– الصحة الرقمية والتطبيب عن بُعد: 21%
– التجارة الإلكترونية والبنية التحتية اللوجستية: 18%
البيئة التنظيمية: تحسن تدريجي.. ولكن
رغم الجهود الحكومية المستمرة لتحسين بيئة الاستثمار، مثل إطلاق بوابة «استثمر في مصر» الرقمية وتحديث قوانين الشركات الناشئة في أبريل 2024، لا تزال البيروقراطية تمثل تحديًا كبيرًا.
تشير بيانات البنك الدولي إلى أن زمن تسجيل شركة جديدة في مصر بلغ في المتوسط 18 يومًا في 2024، مقارنة بـ 6 أيام فقط في الإمارات.
كذلك، لا يزال الوصول إلى الدولار يمثل تحديًا أمام الشركات ذات التوسع الإقليمي، إذ يتطلب تحويل الأرباح أو التمويل بالدولار عدة موافقات مصرفية، مما يدفع العديد من رواد الأعمال للتسجيل خارج مصر، مثلا في دبي أو سنغافورة.
ورغم النمو، لم يخل مشهد الشركات الناشئة من اخفاقات واجهت رواد الأعمال ومنها:
Capiter: الشركة التي جمعت ما يزيد على 33 مليون دولار خلال أقل من عامين، انهارت في 2022 بعد اتهامات بسوء الإدارة واختفاء المؤسسين.
القضية ما زالت قيد التحقيق، مما تسبب في تجميد استثمارات من مؤسسات مثل Quona Capital وBECO Capital في السوق لفترة.
Brimore: رغم نجاحها في جمع أكثر من 40 مليون دولار وتموقعها كمنصة توزيع مباشر في المناطق الريفية، فشلت في الوصول إلى نموذج ربحي واضح، وأعلنت التصفية في 2024.
Elves: الشركة التي روّجت لنفسها كمساعد شخصي رقمي، أوقفت عملياتها في أوائل 2025 بعد انخفاض التفاعل مع منصتها بنسبة 73% خلال عام واحد.
هذه الانهيارات أثارت تساؤلات حول غياب الحوكمة، ضعف الشفافية في جولات التمويل، والانفصال بين الخطط التسويقية والواقع التشغيلي.
دروس من الخارج: ماذا تعني التجربة الأمريكية؟
تُعد الولايات المتحدة نموذجاً متقدماً يمكن لمصر الاستفادة منه، حيث سجّل قطاع الشركات الناشئة فيها أكثر من 316 مليار دولار من الاستثمارات في 2023، وفق بيانات PitchBook.
ورغم التباطؤ مقارنة بذروة 2021، إلا أن السوق الأمريكية تظلّ مرجعاً عالمياً في مجالات مثل حوكمة الشركات، عمليات الخروج (Exits)، وتكامل رأس المال الجريء مع الأسواق العامة.
إحدى الفجوات الأساسية في السوق المصرية هي غياب سوق ثانوي نشط للاستحواذ أو الطرح.
ففي الولايات المتحدة، يُقدر عدد صفقات M&A التي تتم على شركات ناشئة بأكثر من 1,000 صفقة سنوياً، بينما لا يتجاوز هذا الرقم 12 صفقة سنوياً في مصر، وفق بيانات 2024.
إشارات التعافي: من يدفع العجلة؟
من أبرز المحركات الجديدة التي بدأت تُغيّر المعادلة: استثمارات خليجية مباشرة: مثل صفقة STV السعودية في منصة MNT-Halan التي تُقدّر بأكثر من 100 مليون دولار خلال الربع الثاني من 2025.
شراكات جامعية: مثل حاضنة Falak بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في القاهرة، لدعم الشركات الناشئة في مجال التقنيات التعليمية.
تركيز على الابتكار العميق (DeepTech): حيث أعلنت وزارة الاتصالات بالتعاون مع صندوق مصر السيادي عن إطلاق مسرّعة أعمال متخصصة في الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء بداية من يوليو 2025.
كذلك، بدأ عدد من المستثمرين المحليين المؤسسيين مثل صناديق المعاشات وشركات التأمين، النظر تدريجياً نحو تخصيص جزء صغير من محافظهم لدعم صناديق رأس المال المغامر المحلية، وهو ما يُعد سابقة في السوق المصري.
وفي تحرك بارز، أعلنت هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (ITIDA) عن تخصيص 50 مليون جنيه كحوافز للشركات الناشئة المصدّرة للخدمات البرمجية، على أن تُصرف بناءً على تقييم مؤشرات الأداء.
قصص نجاح محلية تُحتذى بها
وسط قصص الفشل، برزت عدة شركات كمصدر فخر للسوق المصري:
Instabug: بدأت كمشروع تخرج، وتحولت إلى منصة عالمية تستخدمها شركات مثل PayPal وSamsung لرصد أخطاء التطبيقات. نُقلت عملياتها إلى الولايات المتحدة، لكنها لا تزال ترتبط بالسوق المصري.
Swvl: رغم التحديات التي واجهتها بعد الإدراج في بورصة ناسداك، استطاعت الشركة إعادة هيكلة نموذجها التجاري والعودة إلى مسار أكثر استدامة. وتجري حاليًا محادثات للاندماج مع لاعبين في النقل الذكي بدول الخليج.
MaxAB: شركة تجارة إلكترونية بالجملة تغطي أكثر من 30 مدينة مصرية، نجحت في جذب تمويلات تخطت 60 مليون دولار، وتوسعت إلى المغرب وتونس.
دور المرأة في منظومة ريادة الأعمال
تشير بيانات صادرة عن Flat6Labs في 2025 إلى أن نحو 24% من المؤسسين في الشركات الناشئة المصرية هم من النساء، وهي نسبة تفوق المتوسط الإقليمي. ومن أبرز النماذج:
Rasha Tantawy: مؤسسة YFS، منصة توظيف الكوادر النسائية في الشركات الصغيرة والمتوسطة.
Nouran El Khatib: قادت شركة Chefaa المتخصصة في خدمات الصيدلة الرقمية، والتي تخدم اليوم أكثر من مليون مستخدم نشط شهرياً.
إدماج المرأة في مشهد ريادة الأعمال لا يحقق فقط مكاسب اجتماعية، بل يعزز أيضًا الأداء المالي للشركات، حسب دراسة حديثة للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
ماذا نحتاج لنكون في مصافّ الأسواق الجاذبة؟
1. إصلاح هيكلي في الحوكمة: إلزام الشركات بجداول معلومات تشغيلية وتمويلية نصف سنوية للمستثمرين.
2. نظام ضريبي محفز: تقديم إعفاءات ضريبية على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن بيع حصص في الشركات الناشئة.
3. منصة موحدة للخروج: تأسيس بورصة صغيرة للشركات التكنولوجية بشروط إدراج مخففة.
4. مبادرات تمويل مشترك: تجمع بين القطاع الخاص والحكومة لتقليل المخاطر على المستثمرين الأجانب.
5. دعم التمويل بالدولار: عبر خطوط تمويل من صناديق خليجية ومؤسسات تنموية مثل IFC وEBRD.
الخلاصة: نافذة الفرصة تضيق لكنها لم تغلق
مع دخول النصف الثاني من 2025، تتضح صورتان متوازيتان: واحدة لشركات تُنهي أعمالها في صمت، وأخرى تجذب رؤوس أموال غير مسبوقة، خاصة من دول الخليج وجنوب شرق آسيا.
ومثلما يحدث في كل اقتصاد ناشئ، فإن الفرق بين النمو والانهيار يكمن في بناء بيئة تُشجّع على الابتكار وتحمي المال في الوقت نفسه.
إن رهان مصر على الشركات الناشئة ليس ترفاً، بل ضرورة تاريخية لتعويض القطاعات التقليدية المنهكة.