على عكس ما يعتقده كثيرون، الديمقراطية هي أكثر من مجرد تنظيم انتخابات أو ضمان انتقال سلمي للسلطة السياسية.
في جوهرها، تتمثل الديمقراطية في مسئولية الممثلين المنتخبين في تلبية احتياجات جميع المواطنين، خاصة المهمشين والضعفاء، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية.
يُعد الحد من الفقر وتعزيز التنمية الشاملة أمران بالغ الأهمية للوفاء بهذه المسئولية الديمقراطية.
ومن المهم أن ندرك أن الفقر ليس مجرد نقص في الدخل أو الوصول إلى الأساسيات، بل هو ينكر الكرامة للأفراد، ويمنع التنقل الاجتماعي، ويحول دون المشاركة الكاملة والمتساوية في المجتمع، ومن هذا المنظور، يعد تقليص الفقر مقياساً مهماً لتقييم مسئولية الحكومة.
تعد الهند دراسة حالة بارزة. فخلال ال11 عاما التي تولى فيها رئيس الوزراء ناريندرا مودي منصبه، شهدت البلاد نمواً اقتصادياً سريعاً، لكن هل كان هذا النمو شاملاً حقاً؟ وهل أدى إلى تحسين حياة الفئات الأكثر فقراً بشكل ملموس؟
عام 2014، قدمت مجموعة من الخبراء بقيادة محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق تشاكرافارثي رانجاراجان، مقياساً جديداً للفقر، مما وفر أداة مهمة لتقييم تقدم الحكومة الهندية.
يُعرف هذا المقياس بـ “خط رانجاراجان”، ويشمل ثلاث خصائص تجعله معياراً موثوقاً، بحسب موقع “بروجكت سنديكيت”.
أولاً: يستخدم طريقة “فترة التذكير المختلط المعدلة”، التي تعتمد على بيانات الإنفاق التفصيلية عبر مجموعة واسعة من السلع والخدمات لتوفير نظرة دقيقة على أنماط الاستهلاك الفعلية.
ثانياً: يعتمد مكون الغذاء في خط رانجاراجان على الإرشادات الغذائية التي قدمها المجلس الهندي للأبحاث الطبية، مما يضمن أن الحد الأدنى للفقر يعكس الاحتياجات الغذائية الأساسية.
وأخيراً : يعطي خط الفقر الحضري لرانجاراجان، الوزن المناسب للتكاليف غير الغذائية الأساسية مثل التعليم والإيجارات السكنية والنقل والوقود والرعاية الصحية.
يتم استخدام بيانات مؤشر أسعار المستهلك على مستوى الولايات لكل عنصر، لأخذ التضخم في الطعام وغير الطعام في الحسبان، مما يساعد في تقدير مستويات الفقر عبر الزمن.
وتعتمد بيانات الاستهلاك على البيانات الوطنية الممثلة التي تم جمعها من خلال “مسوحات الإنفاق الاستهلاكي للأسر” لعامي 2011-2012 و2023-2024 التي أجرتها “وزارة الإحصاء وتنفيذ البرامج”.
نتائج تحليل الفقر في الهند
تكشف التحليلات عن تراجع كبير في معدلات الفقر على مدار الـ12 سنة الماضية، إذ تلتقي معدلات الفقر في المناطق الريفية والحضرية والقطرية عند 3.9% في عام 2023-2024، بعد أن كانت في المناطق الثلاث 30.4% و26.4% و29.5% عام 2011-2012 .
وفي الأرقام المطلقة، تم انتشال 302 مليون شخص من براثن الفقر في الهند خلال هذه الفترة.
حتى عند النظر في شدة الفقر، فإن هناك تحسناً ملحوظاً، إذ تراجعت الفجوة بين الفقراء من 18.4% عام 2011-2012 إلى 10.2% في 2023-2024.
وهذا يعني أن الفقير العادي الآن أقرب بكثير إلى خط الفقر مما كان عليه قبل عقد من الزمن، مما يعكس تحسناً ملموساً في رفاهية من لايزالون يعيشون تحت خط الفقر.
تُظهر هذه الأرقام أيضاً انخفاضات كبيرة في معدلات الفقر عبر المجتمعات الدينية، لا سيما بين أكبر مجموعتين في الهند، وهما الهندوس والمسلمين.
وفي المناطق الريفية، كان معدل الفقر بين المسلمين 31.7% في 2011-2012، وهو أعلى قليلاً من 30.9% بين الهندوس.
وبحلول 2023-2024، تغير هذا الاتجاه، إذ انخفض الفقر بين المسلمين الريفيين إلى 2.4%، بينما بلغ معدل الفقر بين الهندوس 4%.
وقد كان التحول ملحوظاً بشكل مماثل في المناطق الحضرية، ففي عام 2011-2012، كان 39.4% من المسلمين في المناطق الحضرية يعيشون تحت خط الفقر، مقارنة بـ 24.4% من الهندوس.
وبحلول عام 2023-2024، انخفض معدل الفقر بين المسلمين في المناطق الحضرية إلى 5.7%، بينما انخفض المعدل بين الهندوس إلى 3.7%، مما ضيق الفجوة بين المجموعتين من 15 نقطة مئوية إلى نقطتين فقط.
كما شهدت معدلات الفقر تحسناً ملحوظاً عبر الفئات الاجتماعية مثل القبائل المجدولة، والطبقات المجدولة، والفئات الأخرى المحرومة، وهي مجموعات معترف بها على أنها محرومة اجتماعياً أو تعليمياً، بالإضافة إلى الفئة العامة التي تشمل المجتمعات التي لا تقع ضمن هذه التصنيفات.
في المناطق الريفية، كانت القبائل المجدولة قد سجلت أعلى معدل فقر في 2011-2012، إذ بلغ 49.5%، تلتها الفئات الطبقات المجدولة والفئات المحرومة الأخرى.
وبحلول عام 2023-2024، انخفض معدل الفقر بين القبائل المجدولة إلى 12.2%. وبالنسبة للفئة العامة، انخفض من 20% إلى 1.6%.
نتيجة لذلك، تراجعت الفجوة بين القبائل المجدولة والفئة العامة من 29.5 نقطة مئوية في 2011-2012 إلى 10.6 في 2023-2024.
وبالمثل، تراجعت الفجوة بين الفئة العامة من 17.4 نقطة مئوية إلى 2.6، مما يشير إلى زيادة في الشمول الاقتصادي.
لقد شهدت المناطق الحضرية أيضاً تحسناً مماثلاً.
عام 2011-2012، كان لدى فئات القبائل المجدولة أعلى معدل فقر حضري، إذ بلغ 39.6%، بينما كان المعدل للفئة العامة 16.7%، بفجوة تقارب 23 نقطة مئوية.
بحلول عام 2023-2024، انخفض معدل الفقر بين القبائل المجدولة في المناطق الحضرية إلى 6.6%، مقارنة بـ 2.5% للفئة العامة.
وخلال الفترة نفسها، انخفض الفقر بين القبائل المجدولة والفئات الأخرى المحرومة في المناطق الحضرية من 38.2% إلى 9.9% ومن 30.4% إلى 3.6% على التوالي.
ويعكس الانخفاض في الفقر عبر جميع الفئات الدينية والاجتماعية على مدار العقد الماضي ، التأثيرات المجمعة للنمو الاقتصادي المستدام والتدخلات الرعائية المستهدفة.
ورغم فترات الاستقطاب السياسي والتوترات المستمرة المرتبطة بالهوية، تشير البيانات إلى مسار تنموي أكثر شمولاً مما يتم التعرف عليه عادة.
ويُعد تقليص الفقر بين المسلمين ( أحد المجتمعات الحضرية الأكثر حرماناً في الهند) أمرًا ملحوظًا بشكل خاص، فهذا يشير إلى أن السياسات الحكومية، سواء كانت شاملة أو مستهدفة، قد استفاد منها الناس عبر خطوط دينية.
وبالمثل، فإن تضييق فجوات الفقر بين الطوائف المهمشة تاريخياً يعكس تقدمًا ملموسًا نحو تحقيق المزيد من المساواة.
كل هذا يشير إلى أن سياسات حكومة “مودي” قد استفادت منها جميع شرائح المجتمع الهندي، وليس فقط بعض الدوائر السياسية أو المجموعات.
تدعم البيانات الرأي القائل بأن السياسات الاقتصادية للحكومة كانت شاملة على نطاق واسع، مما أدى إلى مكاسب رفاهية واسعة.
ومن خلال ضمان استفادة جميع شرائح المجتمع من النمو، فإن الهند تحافظ على كرامة كل مواطن وتؤدي مسؤوليتها الأساسية في الحكم الديمقراطي.








