«فى مثال سوق السندات، لم يتوقع كثير من الناس اضطرابات سلسلة التوريد التى أيقظت التضخم بعد عقود من السبات»
قبل احتراق منطاد هيندنبورج، كان سجل سلامة المناطيد لا تشوبه شائبة، ولهذا صدمت هذه الكارثة المميتة الرأى العام، وقوَّضت صناعة سفن الجو الجامدة.
كذلك الأمر فى الأسواق؛ إذ غالباً ما تتناول أشد التخارجات إيلاماً ما يفترض الناس خطأً أنها آمنة تماماً.
على مدى العقود الأربعة الماضية وحتى أوائل عام 2021 تقريباً، دفع الطلب الهيكلى على الأصول الآمنة عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات إلى مستويات منخفضة جديدة، ثم حلّت موجة تضخم مفاجئة فى ذلك العام لتسبب واحدةً من أسوأ الانهيارات المسجلة، وفى النهاية، حصلت أزمة للبنوك التى أخطأت فى تقدير مخاطر الآجال.
إننى لا أتنبأ بأزمة، لكن لا يسعنى إلا أن أتساءل عما إذا كانت أسهم شركتى «ولمارت» و«كوستكو هولسيل» تُمثل نوعاً مشابهاً من المخاطر؛ أى تعثر استثمارين «مضمونين».
فى حين يميل مُحللو التقييم إلى التركيز على المضاعفات الباهظة لأسهم الذكاء الاصطناعي، فإن «ولمارت» و«كوستكو» تُتداولان فى الواقع بمضاعف سعرى (للسهم مقارن بحصته من الربح) وصل إلى 47 مرة للأولى و34.3 مرة للثانية، ما يعنى أنهما تتخطيان معدل شركة «إنفيديا» وهو 34 مرة، وهى حالة تتراجع إمكانية الحفاظ عليها مع مرور الوقت.
مضاعف »ولمارت« أعلى بنحو 3.3 انحراف معيارى من متوسطه للفترة 2015 ـ 2024 الذى كان 20 انحرافاً معيارياً، بينما تُتداول »كوستكو« عند ما يزيد بنحو 1.7 انحراف معيارى عن متوسطها لعشر سنوات وهو 34.
من منظور المبادئ الأولية، ليس معتاداً أن يكون لسهمين من أسهم قطاع التجزئة المعتادة عوائد أرباح مستقبلية (أى معكوس مضاعف السعر إلى الأرباح) يقل بكثير عن عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عامين.
بعبارة تبسيطية بعض الشيء، فإن المستثمرين على استعداد لدفع مبلغ أكبر لكل دولار من أرباح العام المقبل عما يرغبون فى دفعه مقابل سندات الخزانة الأمريكية لأجل عامين، والتى يُفترض أنها خالية من المخاطر، مع عوائد مضمونة من الحكومة.
أسهم لجميع الأحوال
إن تقلبات الاستثمار الرأسمالى مع تفاوت طلب المستهلكين جزء من القصة.
فى أوقات التقشف، تستحوذ هذه الشركات على حصة أكبر من ميزانية الأسر التقليدية، وتكتسب نفوذاً حتى بين الفئات ذات الدخل المرتفع، ويمكن القول إن »ولمارت« تمر بمرحلة تحول إلى شركة تجارة إلكترونية.
لكن هذه الشركات ناضجة نسبياً ولديها بالفعل أصول واسعة الانتشار، فيما أن أسواقها المستهدفة محدودة بطلب المستهلكين، ما يعنى أن آفاق النمو لا يمكن أن تكون هى القصة الكاملة. بل أزعم أن الشعور بالأمان هو ما ضخّم تقييمات تجار التجزئة.
ترتفع هذه الأسهم لأن المستثمرين يعتقدون أنها لا يمكن أن تنخفض! ومن المفارقات أن هذا يعرضها الآن لخطر تصحيح متزايد.
الحكاية هى أن أسهم »كوستكو« و«ولمارت« ينظر إليها على أنها أسهم تقتنى فى جميع الأحوال. إذ إن سمعتهما الجيدة تعنى أنهما تحققان أرباحاً فى الأوقات الجيدة وتستحوذان على حصة سوقية عندما يتدهور الاقتصاد.
وقد عززتا هذه السمعة خلال الفترة بين 2020 و2024، التى حلّت خلالها جائحة وشهدت أسوأ تضخم منذ 40 عاماً وعرفت كذلك ارتفاعاً حاداً فى أسعار الفائدة.رغم كل ذلك، كانت »كوستكو« و«ولمارت« من 48 شركة فقط فى مؤشر »ستاندرد آند بورز 500« لم تشهد انخفاضاً سنوياً فى الإيرادات أو تراجعاً فى أرباح السهم الواحد من العمليات المستمرة.
فى الوقت نفسه، كان أداء السوق أقوى مما تدعمه العوامل الأساسية.
منذ نهاية عام 2019، حققت »كوستكو« عائداً بنسبة 250% و«ولمارت« عائداً بنسبة 163%، مقابل 118% لمؤشر »ستاندرد آند بورز 500« بشكل عام.
والأكثر إثارة للإعجاب هو أنهما حققتا ذلك بتقلبات ضئيلة جداً، فكانتا بذلك من أفضل 10 شركات من حيث العوائد المعدلة لاحتساب المخاطر بين أسهم »ستاندرد آند بورز 500«.
هل هو أمان زائف؟
يمكن لمفارقة الأمان أن تؤثر على أى شيء فى القطاع المالى والأسواق.
فى مثال سوق السندات، لم يتوقع كثير من الناس اضطرابات سلسلة التوريد التى أيقظت التضخم بعد عقود من السبات، وقد هدأ روع المستثمرين بفعل انخفاض مستمر فى تكاليف الاقتراض.
وبالمثل، حتى عام 2008، كان كثير من أبناء جيل طفرة المواليد ـ انطلاقاً من تجاربهم الحياتية ـ يعتقدون أن مساكن العائلات الفردية لم يسبق أن فقدت قيمتها، ما دفع أسعار المنازل إلى ارتفاع شديد لدرجة أن الانهيار كان بقوة انهيار جليدى.
فى حالة شركات تجارة التجزئة، قد لا تحتاج الأساسيات إلى تغيير كبير على الإطلاق ـ ولا ينبغى لنا أن نتوقع منها ذلك ـ حتى تشهد الأسهم تصحيحاً.
بطريقة ما، وفرت اتجاهات الاقتصاد الكلى الأخيرة التوازن المثالى لـ»ولمارت« و«كوستكو».
خلقت أسعار الفائدة المرتفعة والتضخم الثابت بيئة تباطأت فيها معدلات التوظيف وأصبح المستهلكون أكثر تمييزاً، لكن الاقتصاد لم يتدهور أبداً لدرجة أن يبدأ الناس بفقدان وظائفهم ويضطرون إلى خفض إنفاقهم الاستهلاكى عموماً.
نجد أنفسنا فى حالة توازن فريدة وغير مستقرة، ولن تدوم إلى الأبد.
حتى فى غياب الركود، قد يتطلب الأمر تباطؤاً طفيفاً فى النمو، بحيث يدرك المستثمرون أن الطلب لا يمكن أن ينمو بشكل كبير ليدفع إلى إعادة النظر فى المضاعفات.
إن العودة إلى مضاعفات المتوسط السابقة على مدى 10 سنوات من شأنها أن تعنى انخفاضاً قدره 39% لشركة «ولمارت» وانخفاضاً بنسبة 28% لشركة «كوستكو»، مع الحفاظ على ثبات توقعات الأرباح الحالية لاثنى عشر شهراً.
تشتهر مقولة إن السوق قد يظل غير منطقى لفترة أطول من قدرتك على الإيفاء بالتزاماتك المالية، التى تُنسب إلى جون ماينارد كينز (مع أنه لا أحد متيقن من صحة هذا الإسناد).
بهذا المعنى، حتى «الأمان» قد يكون نبوءة تحقق ذاتها لفترة طويلة؛ أى إذا اعتقد الجمهور أن شيئاً ما هو خيارٌ مضمون، فسيشتريه أناس أكثر فأكثر، وسيبدو الأداء إثباتاً للفرضية الأصلية.
فى حالة «ولمارت» و«كوستكو”، استمر هذا الوضع لعدة سنوات.
فى هذه المرحلة، يفيد التفكير فيما يُخبرنا به ذلك عن حالة السوق الأوسع، وما سيحدث عند التوقف الحتمى لهذا الوضع.








