هل الابتكار أم التمركز المالى وراء تفاقم عدم المساواة؟

على صُناع السياسات القلقين ألا يخشوا الابتكار التكنولوجي أو التطور المالي

قبل أكثر من عقد من الزمن، قدم الحائزان على جائزة نوبل دارون أسيموجلو وجيمس روبنسون، مع زميلهما تييري فيردييه، مقارنة بين الرأسمالية الأمريكية “الوحشية” ونظيرتها الأوروبية الغربية “اللطيفة”.

وأشاروا إلى أن الصفات التي تجعل الرأسمالية الوحشية أكثر ملاءمة للابتكار تؤدي أيضاً إلى مستويات أعلى من عدم المساواة، في حين أنّ نظم الحوافز في الرأسمالية اللطيفة تميل إلى تحقيق نمو أقل لكنها ترفع مستويات الرفاه.

واليوم، ترتفع معدلات عدم المساواة بشكل حاد، خصوصاً في الولايات المتحدة.

والسؤال المطروح هو: هل يمكن أن تؤدي السياسات الهادفة لتعزيز الابتكار إلى تفاقم هذه الأزمة؟

في الأدبيات الاقتصادية، ثمة كثير من الدعم لفكرة أن الابتكار التكنولوجي يعد محركاً أساسياً لعدم المساواة، بحسب موقع “بروجكت سنديكيت”.

لكن ثمة خطاً فكرياً آخر يعزو ارتفاع عدم المساواة بدرجة كبيرة إلى ما يُعرف بـ”التمركز المالي”، وهو مصطلح يشمل تزايد حصة القطاع المالي في الاقتصاد، واعتماد الشركات غير المالية بشكل متزايد على الأنشطة المالية كمصدر رئيسي للإيرادات، إضافة إلى حوكمة الشركات التي تركّز على تعظيم توزيعات الأرباح للمساهمين بدلاً من الاستثمار في النمو المستقبلي.

جرى تصنيف الدول وفق مستويات الابتكار والتمركز المالي فيها لتوضيح أي من العاملين له الدور الأكبر في تغذية عدم المساواة، فوجد أن أعلى مستويات عدم المساواة تتواجد في مجموعة الدول ذات الابتكار المنخفض والتمركز المالي المرتفع، وتشمل هذه المجموعة عدداً من الاقتصادات المتقدمة والناشئة مثل البرازيل وإسبانيا وتركيا.

كما ظهرت مستويات مرتفعة من عدم المساواة أيضاً في المجموعة التي يجتمع فيها كل من الابتكار والتمركز المالي عند مستويات مرتفعة، وتشمل معظم اقتصادات الرأسمالية الأنجلو أمريكية، إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية.

في المقابل، أظهرت مجموعة الدول ذات الابتكار المرتفع والتمركز المالي المنخفض، التي تضم عدداً من الاقتصادات الأوروبية المتقدمة مثل النمسا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنرويج، أدنى مستويات لعدم المساواة.

أما مجموعة الدول ذات الابتكار المنخفض والتمركز المالي المنخفض، التي تضم معظم الاقتصادات الناشئة مثل الهند وروسيا وبعض دول أوروبا الشرقية، فقد أظهرت مستويات متوسطة من عدم المساواة.

في النهاية، لم نجد أي رابط بين الابتكار وعدم المساواة في الدخل.

وهذا الاكتشاف يتحدى أطروحات الاقتصادي الفرنسي فيليب أجيون، الذي يرى أن الابتكار، حين يُقاس بعدد براءات الاختراع الموزونة بحسب الجودة، يميل إلى تفاقم عدم المساواة، لأن الأرباح الناتجة عن مكاسب الإنتاجية تتحول إلى ريع احتكاري للمبتكرين.

غير أن نهج أجيون يفشل في أخذ تأثيرات أخرى للابتكار في الحسبان، مثل زيادة الاستثمار في رأس المال المادي، الذي يمكن أن يخفف من الآثار السلبية على التوزيع من خلال خلق فرص عمل وزيادة دخول العاملين مع الأنظمة أو المعدات الجديدة.

هذه الفوائد تكون أكثر وضوحاً عندما يتعلق الأمر بـ”ابتكار المنتجات” (طرح سلعة جديدة أو محسنة)، حيث يولد المنتج الجديد موجة طلب جديدة تحفز المزيد من الاستثمارات.

أما “ابتكار العمليات” (إدخال طريقة إنتاج جديدة) فيميل إلى تقليص العمالة على المدى القصير، لكن حتى في هذه الحالة عادة ما يجري تعويض أثره على عدم المساواة على المدى الطويل عبر وفورات التكلفة.

وباستخدام نفس معيار الابتكار الذي اعتمده أجيون، لكن مع احتساب هذه العوامل، وجدت أن الابتكار لا يؤثر على عدم المساواة بشكل عام أو على حصة الدخل التي تذهب إلى أعلى 1% إلى 5%.

علاوة على ذلك، فإن الريوع الاحتكارية المرتبطة بالابتكارات تكون عادة قصيرة الأجل، إذ تعتمد الشركات الأخرى التقنية الجديدة في نهاية المطاف.

وهنا نعود إلى التمركز المالي، الذي يرتبط بشكل مباشر بعدم المساواة، وتحديداً تآكل الطبقة الوسطى.

فمع ارتفاع نسبة القيمة السوقية للأسهم أو حجم الأسهم المتداولة إلى الناتج المحلي الإجمالي، يجري إعادة توزيع الدخل من الطبقة الوسطى إلى أصحاب الدخول المرتفعة. (أما دخول الـ50% الأدنى فلا تتأثر بالضرورة).

وقد تجلى هذا الأثر في الولايات المتحدة بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، حين أدت سياسات التيسير النقدي غير المسبوقة إلى ارتفاع أسعار الأسهم، ما أعطى انطباعاً بحدوث انتعاش قوي، حتى في ظل ضعف التوظيف ومعاناة الاقتصاد الحقيقي.

بالمثل، ارتفعت أسعار الأسهم اليابانية في الربع الثالث من عام 2023 إلى مستويات قياسية بفضل التيسير النقدي وإعادة شراء الأسهم، رغم أن النمو كان سلبياً خلال الربعين السابقين.

يذكر أن التمركز المالي (تأثير الأنشطة المالية على الشركات غير المالية) يختلف عن التطور المالي (عمق وشمولية وكفاءة المؤسسات المالية).

إذ إن التطور المالي، أي المقاس بنسبة الائتمان الخاص أو الالتزامات السائلة إلى الناتج المحلي الإجمالي، لا يبدو أنه يؤثر بشكل كبير على حصة الدخل التي يهيمن عليها أصحاب الدخول الأعلى.

الرسالة هنا واضحة، فعلى صُناع السياسات القلقين بشأن عدم المساواة ألا يخشوا الابتكار التكنولوجي أو التطور المالي، إذ إنهما سيقودان إلى النمو وخلق الوظائف على المدى الطويل.

لكن ينبغي عليهم التفكير في خطوات للتخفيف من العواقب التوزيعية للتمركز المالي، مثل فرض ضرائب أعلى على المداخيل المالية للأسر الأكثر ثراء.

وإذا لم يفعلوا ذلك، فإن تراجع الطبقة الوسطى سيستمر.