استمرار التداول المضاربي يهدد بتقويض الأسواق ويمنع تكوين جيل من المستثمرين طويلي الأجل
تتزايد المخاطر تدريجياً عبر النظام المالي، مدفوعة بتبني المستثمرين الأفراد استراتيجيات تداول أكثر مضاربة قصيرة الأجل، وعالية بالمخاطر.
ورغم إدراك العديد من قادة الأعمال لتراكم هذه المخاطر، إلا أنهم قد لا يُقدرون حجمها الكامل ولا عواقبها المحتملة.
والأهم من ذلك، أن هذه المخاطر لا تقتصر على الأسواق المالية فقط؛ إذ إن المضاربة المفرطة تهدد أيضاً استقرار الأوضاع المالية للأسر، ومن ثم الاقتصاد الأوسع ككل.
ذكر موقع “بروجكت سنديكيت” أن الخطورة أصبحت حادة لأن الإقبال على المخاطر مرشح للارتفاع أكثر، فالتطبيقات الرقمية ومنصات التداول عبر الهواتف الذكية جعلت عمليات التداول سهلة ومباشرة، ما جذب موجة جديدة من المستثمرين الأفراد.
ومؤخراً، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يسمح لخطط المعاشات التقاعدية “401 كيه” بالاستثمار في أصول بديلة مثل الأسهم الخاصة، والديون الخاصة، والبنية التحتية، والعقارات، والسلع، والعملات المشفرة.
وهذه الأصول كانت تاريخياً مخصصة للمؤسسات والمستثمرين المحترفين، وهي عادةً غير سائلة وتنطوي على مخاطر لا يملك معظم المتداولين الأفراد الأدوات الكافية لإدارتها.
ويفاقم المشكلة أن جيل “الطفرة السكانية” من المتوقع أن ينقل ثروة تُقدر بنحو 124 تريليون دولار إلى الأجيال الأصغر بحلول عام 2048.
هذا التحوّل الهائل في الثروة يمنح جيلاً جديداً من المستثمرين الأفراد شهية قوية للأسهم والعملات المشفّرة والأسهم وعملات الميم، إضافة إلى المراهنات الرياضية وأسواق التوقّعات.
في الوقت نفسه، يتمتع هذا الجيل الجديد من المتداولين الأفراد بوصول غير مسبوق إلى الأسواق، وبأدوات تداول معقدة تتيح لهم المضاربة في مشتقات عالية المخاطر مثل الخيارات اليوم صفر (zero-day options).
كانت هذه الأدوات تُستخدم سابقاً للتحوّط أو لاتخاذ مراكز طويلة الأجل، لكنها أصبحت الآن وسيلة للمراهنات اليومية على تحرّكات أسعار الأسهم من قِبل مستثمرين يسعون لتحقيق مكاسب سريعة.
وغالباً ما تستند هذه الصفقات إلى شائعات وسرديات متداولة على منصّات التواصل الاجتماعي مثل “ريديت” وغيرها، وليس إلى أسس مالية حقيقية.
ما يزيد الأمر سوءاً أن بعض المتداولين يضاعفون رهاناتهم الخطرة عبر الاقتراض لشراء أصول متقلبة، بل إن بعضهم يقترض لشراء منتجات مالية ذات رافعة مالية أصلاً، أبرزها صناديق المؤشرات المتداولة ثلاثية الرافعة المرتبطة بمؤشر “ناسداك” مثل (TQQQ) الطويلة ثلاثياً و(SQQQ) القصيرة ثلاثياً.
وتتميز هذه الصناديق بفترات احتفاظ قصيرة للغاية لا تتجاوز خمسة أيام لـ(TQQQ) ويومين فقط لـ(SQQQ).
ولا يقتصر التفكير المضاربي على هذه الصناديق، بل يمتد إلى الأسهم الفردية أيضاً، إذ تُظهر بيانات التداول أن أسهم شركات مثل “روبن هود” و”كوين بيس” و”بالانتير” و”تسلا” تُحتفظ بها في المتوسط أقل من شهر واحد، ما يشير إلى أن العديد من المستثمرين يراهنون على تحركات الأسعار قصيرة الأجل بدلاً من تقييم الأداء المستقبلي لهذه الشركات على المدى الطويل.
على نطاق أوسع، تسهم هذه السلوكيات المضاربية التي تتجاهل الأسس المالية ومؤشرات التقييم مثل نسب السعر إلى الأرباح في تفاقم مستويات الرافعة المالية غير المرئية في نظام الظل المصرفي.
ونتيجة لذلك، تُضخم الصفقات الممولة بالديون المخاطر النظامية، وتزيد احتمالات القروض المتعثّرة وحالات الإفلاس التي قد تمتد آثارها إلى الاقتصاد الحقيقي، أما بالنسبة لقادة الأعمال وواضعي السياسات، فإن بروز ثقافة المضاربة هذه يخلق مشكلتين رئيسيتين.
أولهما، أنها إلى جانب تزايد الرافعة المالية تولد مخاطر نظامية جديدة، إذ يمكن أن تؤدي الخسائر الناجمة عن الرهانات عالية المخاطر إلى اهتزاز النظام المالي بأكمله، تماماً كما حدث بانهيار سوق الرهن العقاري الأمريكي عام 2008، ما قد يزعزع الاقتصاد العالمي برمته.
وفي أسوأ الحالات، قد تتحول المكاسب الخاصة قصيرة الأجل مجدداً إلى خسائر يتحملها دافعو الضرائب، أما المشكلة الثانية، فتتعلق بصحة الاقتصاد الحقيقي على المدى الطويل.
فقد أشار الاقتصادي جون ماينارد كينز قبل نحو قرن، إلى أن الإفراط في المضاربة يشوه مسار التنمية الاقتصادية، لأنه يحوّل الموارد بعيداً عن الاستثمار الإنتاجي.
فالأموال التي يمكن أن تُستخدم لدعم الابتكارات في مجالات مثل الرعاية الصحية والبنية التحتية وقطاعات حيوية أخرى، تُستنزف اليوم في أنشطة تداول قصيرة الأجل ومضاربات مالية عقيمة.
وما لم يتم كبح التداول المضاربي، فإنه سيقوض البنية السوقية والأنظمة المالية التي توجه رأس المال نحو المشاريع الإنتاجية، وسيجعل من الصعب تكوين جيل جديد من المستثمرين الأفراد ذوي الرؤية الطويلة.
فأسواق رأس المال التي كانت تموّل الأعمال وتدعم النمو الاقتصادي المستدام قد تتحول إلى ساحات لعب للمقامرين قصيري الأمد الباحثين عن صفقة الأسبوع.
إن تآكل “رأس المال الصبور” سيضعف القاعدة المستقرة من المستثمرين التي طالما اعتمدت عليها الشركات في نموها واستمراريتها.
وبينما تعمل آفات المضاربة بصمت داخل النظام المالي، تبقى الأسئلة الأهم بلا إجابات: هل يجري إعداد المسرح لأزمة عالمية جديدة؟ وإلى أي مدى يمكن لأسس الاقتصاد أن تتحمّل هذا التآكل؟








