لم يعد العقار في مصر مجرد نشاط اقتصادي تقليدي، بل صار مرآة لحركة الاقتصاد بأكمله؛ فالسوق العقارية اليوم تمثل نحو خمس الناتج المحلي الإجمالي، وتتقاطع معها قطاعات أخرى تضيف نسبة مشابهة تقريبًا، ما يجعلها قاطرة للنمو ومحورًا لجذب الاستثمارات.
هذه المكانة لم تأت من فراغ، فالسوق تُقدّر حاليًا بنحو 20 مليار دولار مع توقعات ببلوغها 33 مليارًا بحلول 2029، فيما تضاعفت مبيعات كبرى الشركات العقارية خلال عام واحد، من 701 مليار جنيه في 2023 إلى نحو 1.4 تريليون في 2024.
لكن خلف هذا الوهج تكمن صورة أكثر تعقيدًا، فالمعروض من الوحدات يتزايد بشكل مستمر بفضل المدن الجديدة والمشروعات الكبرى، بينما يظل الطلب قويًا من المصريين الباحثين عن حفظ قيمة مدخراتهم، ومن المستثمرين الخليجيين والأجانب.
غير أن الطلب الفعلي يصطدم بواقع القدرة الشرائية، فارتفاع الأسعار بنسبة تقارب 42% خلال عام واحد جعل حلم التملك بعيد المنال للكثيرين، رغم أن الرغبة في الشراء تضاعفت أكثر من مرة منذ 2016.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: استثمارات فضّ المنازعات
المعضلة إذن ليست في غياب الطلب ولا في ضعف المعروض، بل في فجوة عميقة بين الأسعار والدخول الحقيقية، يفاقمها نقص أدوات التمويل العقاري المناسبة، وتعقيدات التسجيل، وضعف الرقابة على إدارة المجتمعات العمرانية الجديدة. كما أن الاستثمار الفردي في السوق لا يزال يميل إلى العشوائية والمضاربة، بدلًا من أن يتحول إلى استثمار مؤسسي مستدام.
بالإضافة إلى تحول شركات التطوير العقاري إلى شركات إدارة محافظ استثمارية، من خلال تداول الأفراد على الحجوزات والتنازلات، وقيام الشركات بالتقسيط المباشر للعملاء، الأمر الذي يحمل تكلفة الوحدة أكثر من ضعف قيمتها الفعلية بعد الأرباح. فضلاً عن أن نظام تقسيط الشركات مع الاستلام اللاحق يمنح شركات التطوير العقاري فرصة لإعادة دورة رأس المال أكثر من مرة قبل التسليم، وهو ما يخل بسوق الاستثمارات من ناحية، ويؤثر على كفاءتها في القيام بعملها الرئيسي، وهو التطوير والإنشاء، كما يعمل على رفع أسعار الوحدات بشكل غير منطقي.
هذه التحديات تفرض علينا إعادة هيكلة وتنظيم قطاع التطوير العقاري في مصر، وذلك من خلال تحديد نشاط شركات التطوير العقاري في الإنشاء والتعمير، مع تعزيز دور شركات التمويل العقاري المستقلة عن المطورين، بما يتيح حلولًا أكثر مرونة لتمكين الطبقة المتوسطة من الشراء، مع ضرورة تنظيم عملية إعادة البيع.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: العالم في قبضة الديون
كما يجب العمل على إصلاح منظومة التسجيل عبر الاعتماد على السجل العيني وربط التسجيل بسداد قيمة الوحدة كاملاً، مع إنشاء هامش للتأشير بالوحدات محل التقسيط، بما يضمن حقوق المشتريين ويحد من النزاعات.
ويجب أيضًا فصل شركات الإدارة عن شركات التطوير، مع تحديث قانون اتحاد الشاغلين ليتماشى مع طبيعة المجتمعات السكنية الحديثة، ويضع ضوابط واضحة للتعامل مع ودائع الصيانة.
إلى جانب ذلك، فالقطاع بحاجة إلى فتح نقاش حول خلق أدوات استثمارية جديدة ومبتكرة، مثل التمويل التشاركي وصناديق الاستثمار العقاري، مع منح ترخيص لشركات متخصصة لإدارة الوحدات السكنية والإدارية والتجارية بعقود نموذجية تحمي الملاك وتمنع الاستغلال، وتمكّن الشركة من تأجير واستغلال الوحدات لصالح المالك.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: هل يكره المصريون الاستثمار؟
وفي الجانب القانوني، فمن الضروري إنشاء دوائر متخصصة داخل المحاكم للفصل السريع في منازعات التطوير العقاري فقط، ما يعزز الشفافية والثقة في السوق.
يقف القطاع العقاري في مصر عند مفترق طرق، بين طفرة نمو هائلة تقودها التوسعات العمرانية غير المسبوقة، وبين حاجة مُلحّة لإصلاحات هيكلية من خلال قانون خاص بالتطوير العقاري يضمن أن يتحول العقار من مجرد وعاء ادخاري ومجال مضاربة، إلى محرك حقيقي للتنمية الاقتصادية المستدامة يواكب تطلعات رؤية مصر 2030.








