يُعَدّ فضّ المنازعات أحد الركائز الأساسية لتعزيز بيئة الاستثمار، إذ يساهم في توفير مناخ آمن ومستقر للمستثمرين من خلال تقديم حلول سريعة وفعّالة للخلافات التي قد تنشأ بين الأطراف، فضلاً عمّا توفره آليات فضّ المنازعات من استثمارات بحد ذاتها، فقد شهدت الاستثمارات في إنشاء مراكز فضّ المنازعات نموًا ملحوظًا، حيث تُعَدّ هذه المراكز ركيزة أساسية لدعم الاستثمار الأجنبي المباشر.
ووفقًا لتقارير دولية، يُقدَّر حجم الاستثمارات في إنشاء وتطوير مراكز التحكيم والوساطة بمليارات الدولارات سنويًا، لا سيما في المراكز المالية والتجارية الرئيسية مثل لندن، سنغافورة، هونغ كونغ، ودبي.
فعلى سبيل المثال، شهد مركز دبي الدولي للتحكيم (DIAC) استثمارات كبيرة لتطوير بنيته التحتية وتعزيز قدراته التقنية، مما جعله أحد أبرز مراكز التحكيم في الشرق الأوسط. كما يُعَدّ مركز سنغافورة الدولي للتحكيم (SIAC) نموذجًا للاستثمار في البنية التحتية القانونية، حيث يجذب نزاعات بقيمة تصل إلى مليارات الدولارات سنويًا.
كذلك فإنّ المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) يتولى تسوية نزاعات استثمارية بقيمة إجمالية تتجاوز 100 مليار دولار، مما يعكس أهمية الاستثمار في مثل هذه المراكز.
وتُشير التقديرات إلى أن الاستثمارات في هذا القطاع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو الاقتصادي، إذ تساهم مراكز فضّ المنازعات في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر من خلال توفير بيئة قانونية موثوقة.
وتوجد العديد من التجارب الدولية الرائدة في هذا المجال؛ ففي سنغافورة على سبيل المثال، التي تُعَدّ نموذجًا بارزًا في فضّ المنازعات، أُنشئ كلٌّ من مركز سنغافورة الدولي للتحكيم (SIAC) ومركز ماكسويل للوساطة. وتستفيد هذه المراكز من قوانين متقدمة، وبنية تحتية متطورة، ودعم حكومي قوي، مما جعلها وجهة مفضلة لتسوية المنازعات التجارية الدولية.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: العالم في قبضة الديون
أما في المملكة المتحدة، فتُعَدّ محكمة لندن للتحكيم الدولي (LCIA) واحدة من أقدم وأنجح مراكز التحكيم في العالم، حيث تستفيد من نظام قانوني قوي وسمعة عالمية في الحيادية، وهو ما يجذب المستثمرين لتسوية منازعاتهم هناك.
وكذلك يُظهر مركز هونج كونج للتحكيم الدولي (HKIAC) كيف يمكن للاستثمار في مراكز فضّ المنازعات أن يدعم النمو الاقتصادي، حيث يعالج نزاعات تجارية واستثمارية ذات قيمة كبيرة، مستفيدًا من موقع هونغ كونغ كمركز مالي عالمي.
وأظهرت دراسة حديثة أجرتها شركة المحاماة White & Case بالتعاون مع كلية كوين ماري للتحكيم الدولي، أن مدينتي لندن وسنغافورة لا تزالان تحتلان الصدارة كأكثر المدن اختيارًا لمقرات التحكيم الدولي على مستوى العالم، تليهما هونغ كونغ وباريس وجنيف.
كما أوضحت الدراسة أن المشاركين يميلون إلى اختيار مقرات تحكيم داخل مناطقهم الجغرافية؛ فمثلًا يفضل المشاركون في آسيا والمحيط الهادئ سنغافورة وهونغ كونغ، بينما يفضل المشاركون في أوروبا لندن وباريس.
وتشمل العوامل المؤثرة في اختيار مقر التحكيم: الدعم المقدم من المحاكم المحلية، وحيادية النظام القانوني، وقوة المراكز التحكيمية، وسجل التنفيذ القوي للاتفاقيات والأحكام. وتُظهر هذه النتائج ثقة الشركات والمؤسسات في النظام القانوني والمراكز التحكيمية لكل من لندن وسنغافورة، كما تعكس جاذبية المدينتين للاستثمارات الدولية بفضل الشفافية والكفاءة في فضّ النزاعات.
وفي مصر، صاحبة أول مركز تحكيم تجاري في أفريقيا والشرق الأوسط، وهو مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي المنشأ عام 1979 تحت رعاية المنظمة الآسيوية–الأفريقية للاستشارات القانونية (AALCO) وباتفاق مع الحكومة المصرية آنذاك، وأول مركز إقليمي يتعاون مع المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)، لم يتجاوز عدد القضايا التي استضافها منذ إنشائه وحتى نهاية العام الماضي 1800 قضية، مقابل نحو 5000 قضية استضافها مركز دبي للتحكيم المنشأ عام 1994.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: الضرائب الرقمية والعدالة الضريبية
ويستدعي هذا الوقوف على أسباب ضعف الإقبال على مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم، على الرغم من تاريخه العريق وسمعته الدولية الجيدة، وكذلك بحث أسباب ضعف سوق فضّ المنازعات في مصر، وعدم خروج أي مركز دولي جديد للنور على مدار السنوات الماضية يحظى بثقة المستثمرين الدوليين، باستثناء المراكز التابعة للهيئات.
إن أهمية مراكز فضّ المنازعات، بما تتضمنه من آليات كالتحكيم والوساطة والتوفيق، لا تقتصر على تخفيف الضغط عن المحاكم والمساهمة في تحقيق السلم المجتمعي، بل تمتد لتكون بوصلة للاستثمارات الأجنبية، وانعكاسًا لجاذبية الدولة للاستثمار، ورافدًا رئيسيًا لاقتصاد الخدمات.
وعلى الرغم من التحديثات الدورية التي يُجريها مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم على قواعده، خاصة فيما يتعلق بالمحكم الطارئ وقواعد الدمج، وعلى الرغم من انضمام مصر إلى اتفاقية نيويورك منذ عام 1959 بلا تحفظات، وهو ما يمنح ميزة نسبية في تعزيز إنفاذ الأحكام لصالح المستثمرين، إلا أننا لا نزال بحاجة إلى تحديث البيئة القانونية التي تتطور يوميًا، لا سيما مع دخول الذكاء الاصطناعي في مجال التقاضي وفضّ المنازعات.
ويأتي على رأس الأولويات إصدار قانون جديد للتحكيم، وهو ما شُكّلت له لجنة منذ فترة طويلة، لكن لم يصدر عنها أي نتائج معلنة حتى الآن. كما أننا بحاجة إلى مزيد من المرونة والتيسير في تنفيذ أحكام التحكيم.
ومن ناحية أخرى، فإن تعزيز دور مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، الذي يُعَدّ أحد أقدم مراكز التحكيم في المنطقة، يتطلب تزويده بالموارد البشرية واللوجستية والتقنية اللازمة، وتطوير الشفافية الإجرائية، وتعميق التحول الرقمي، وتوسيع قاعدة المحكمين، ووضع معايير لضمان تدوير القضايا وكسر حالة شبه الاحتكار القائمة، وتحسين جداول الأتعاب للمسارات المُعجَّلة، فضلًا عن ضرورة التواصل مع البنوك لإصدار برامج تمويل لفضّ المنازعات (Third Party Funding) بما يسهم في تخفيف أحد أهم معوقات اللجوء إلى التحكيم وهي الرسوم، ويخلق وعاءً استثماريًا جديدًا للبنوك.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: هل يكره المصريون الاستثمار؟
كما أن تطوير برامج تدريبية متخصصة واحترافية للمحكّمين والوسطاء، بالتعاون مع المؤسسات الدولية مثل المركز الدولي لتسوية المنازعات (ICSID) أو غرفة التجارة الدولية، وتشجيع الشراكات مع الجامعات المصرية لتقديم برامج أكاديمية في قانون التحكيم والوساطة، أمر ضروري.
ويجب كذلك العمل على تحفيز خطط تأسيس مراكز دولية مستقلة لفضّ المنازعات إلى جانب مركز القاهرة، وتشجيع المراكز الدولية والإقليمية على افتتاح فروع لها في مصر، بما يسهم في تطوير مراكز تحكيم إقليمية تخدم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إن الاستثمار في فضّ المنازعات يُعَدّ ركيزة أساسية لتعزيز جاذبية مصر كوجهة استثمارية. فمن خلال الاستفادة من مزايا التحكيم والوساطة، مثل السرعة والمرونة والسرية، يمكن لمصر بناء بيئة قانونية موثوقة تدعم المستثمرين المحليين والأجانب.
وقد أثبتت التجارب الدولية أن الاستثمار في مراكز فضّ المنازعات يعزز النمو الاقتصادي ويجذب رؤوس الأموال. كما أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ينظران إلى التحكيم باعتباره عنصرًا أساسيًا من عناصر “مناخ الأعمال الجيد”.
وإلى جانب ذلك، فإن توافر مراكز تحكيم قوية يسهم في رفع تصنيف الدولة في مؤشرات مثل إنفاذ العقود، وحل النزاعات التجارية، وسهولة ممارسة الأعمال، فضلاً عن أن الشركات التي تستثمر في البنية التحتية والطاقة والمرافق العامة تهتم كثيرًا بآليات فضّ المنازعات، فإذا اطمأنت إلى وجود مركز تحكيم فعّال، فإنها تكون أكثر استعدادًا لضخ استثمارات كبيرة وطويلة الأجل.
لدينا فرصة حقيقية لكي تصبح مصر مركزًا إقليميًا لفضّ المنازعات، مما يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، وذلك من خلال خطة متوسطة المدى تتضمن تحديث التشريعات، وتطوير البنية التحتية والتكنولوجية، ودمج الذكاء الاصطناعي، وتدريب الكوادر.








