بعد تعثّر اتفاقيات مصر مع صندوق النقد الدولي في عامي 1977 و1978، وقّعت الدولة أول اتفاق ناجح فعليًا لها منذ عشر سنوات مع الصندوق، وهو الاتفاق الذي جرى في 15 مايو 1987.
وبموجب هذا الاتفاق حصلت مصر على تسهيل قدره (250 مليون وحدة سحب خاصة) بما يعادل 328 مليون دولار، عبر «اتفاق مساندة» مدته ثمانية عشر شهرًا، لدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي.
اتفاق متميز.. وبداية الخصخصة
وتميّز هذا الاتفاق بأنه بعد توقيعه بأسابيع حصلت مصر على شهادة براءة ذمة (clearance) من صندوق النقد، وبموجبها تم التوقيع على اتفاقيتين مع نادي باريس لإعادة جدولة نحو 14 مليار دولار من الديون الحكومية والمضمونة حكوميًا على 10–15 سنة مع فترات سماح، والحصول على 500 مليون دولار من البنك الدولي في صورة قرض سريع التدفق، بالإضافة إلى حزم تمويل مشتركة من دول أوروبية بقيمة إجمالية تجاوزت 700 مليون دولار.
في المقابل، التزمت مصر بعدد من الإصلاحات مثل توحيد سعر الصرف تدريجيًا، ورفع أسعار الفائدة لتصبح إيجابية حقيقية، مع العمل على تقليص عجز الموازنة من 20% إلى حوالي 8% من الناتج المحلي بحلول 1990، وتحرير التجارة الخارجية جزئيًا.
كما كان هذا الاتفاق نقطة البداية لخصخصة بعض الشركات العامة بموجب القانون 203 لسنة 1991، الذي كان امتدادًا لهذا البرنامج.
والحقيقة أن هذا البرنامج لم يساعد مصر فقط في تجاوز أزمتها الاقتصادية، وإنما أيضًا كان نقطة تحول حقيقية في علاقة مصر بالمؤسسات المالية الدولية، لأنه أعادها إلى سوق الائتمان الدولي.
تحول في علاقة مصر بالصندوق
في مايو 1991 تم الاتفاق السادس بين مصر وصندوق النقد الدولي على «مساندة»، وبموجبه تم تمويل مصر بما قيمته (60% من حصتها: 184.8 مليون وحدة سحب خاصة SDR) من أجل تدعيم التكيّف الهيكلي من البنك الدولي.
وقد قاد هذا الاتفاق إلى الوصول إلى التعاون السابع «التسهيل الممتد»، الذي تم في 11 أكتوبر من العام نفسه 1991 لمدة ثلاث سنوات، وبموجبه حصلت مصر على 400 مليون وحدة سحب خاصة SDR بما يعادل 147% من حصتها، ليشكّل إجمالي الاتفاقين 772 مليون دولار بما يعادل 207% من حصة مصر بالصندوق.
والحقيقة أن هذين الاتفاقين مثّلا التحول البنيوي في علاقة مصر بصندوق النقد، حيث انتقلت من تثبيت مالي قصير الأجل إلى برنامج إعادة هيكلة شاملة أعاد تعريف دور الدولة وسوق العمل ونظام الدعم، مقابل إعفاء واسع من الديون الخارجية ضمن إطار مشروط صارم، حيث ولأول مرة يتم ربط الديون بالإصلاح الهيكلي وإعادة تشكيل الدولة نفسها، والتحول من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد سوق مفتوح، وحيث أصبح كل من (البنك الدولي – نادي باريس – المانحون) مرتبطين بتنفيذ شروط الصندوق.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: مصر وصندوق النقد الدولي.. تاريخ وعِبَر (1)
وبموجب هذين الاتفاقين وبالتعاون مع نادي باريس؛ تم إلغاء نحو 50% من الدين (أكثر من 20 مليار دولار تم شطبهم أو تخفيضهم فعليًا) كمكافأة على الالتزام بالإصلاحات، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية (دعم مصر للتحالف).
وقد اقترن هذا بإجراء مصر العديد من الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد المصري، من خلال إلغاء أو تخفيض دعم السلع التموينية، وإلغاء سياسات تعيين الخريجين حتى يمكن إعادة سوق العمل لعلاقات العرض والطلب، والإسراع في عمليات الخصخصة لرفع العبء عن الموازنة العامة للدولة، ورفع الضرائب غير المباشرة، ورفع الدعم عن الطاقة، وزيادة أسعار الخدمات العامة مثل النقل والمواصلات والاتصالات وخدمات التعليم والصحة، ومساندة القطاع الخاص، بالإضافة إلى توحيد سعر الصرف.
الخاتمة الذهبية
وفي أكتوبر 1996 أبرمت مصر الاتفاق الثامن لها مع الصندوق، وهو «التسهيل الممدد»، لمدة ثلاث سنوات (أكتوبر 1996 – سبتمبر 1999)، بقيمة 400 مليون وحدة سحب خاصة SDR بما يعادل 554 مليون دولار، والذي يُعد الخاتمة الذهبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الكبير الذي بدأ في 1991.
وبموجب هذا الاتفاق نفّذت مصر تحريرًا لسعر الصرف في أكتوبر 1996، مع تحرير أسعار الفائدة، وإلغاء الإقراض الموجّه، وبدء إعادة هيكلة البنوك، مع تسريع برنامج بيع الشركات العامة، حيث تم بيع أكثر من مئة شركة كبرى خلال ثلاث سنوات.
كما تم بموجبه إدخال ضريبة المبيعات بنسبة 10%، مع رفع تدريجي لدعم الطاقة والكهرباء والمشتقات البترولية، بالإضافة إلى خفض التعريفة الجمركية من متوسط 35% إلى 22%، وإلغاء معظم الرسوم الإضافية.
وتشريعيًا؛ أصدرت مصر قانون العمل الموحد رقم 137 لسنة 1997 لخلق مرونة في التوظيف والإنهاء، وتم إصدار قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997 الذي منح إعفاءات ضريبية من 5 إلى 10 سنوات للمشروعات الجديدة.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: بين بيت الشركات البريطاني وهيئة الاستثمار المصرية
وقد نتج عن هذا الاتفاق ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي من 4.8% إلى 6.1%، كما ارتفع الاحتياطي النقدي من 16 مليار دولار إلى 21 مليار دولار، وانخفض معدل التضخم من 9.5% إلى 3.8%، والعجز المالي إلى الناتج من -2.5% إلى -0.9%، بالإضافة إلى تضاعف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من 600 مليون دولار إلى 1.2 مليار دولار.
وفي تقريره الختامي ذكر الصندوق حرفيًا: «لقد نجحت مصر في إتمام واحد من أكثر برامج الإصلاح شمولًا واستدامة التي يدعمها صندوق النقد الدولي في أي دولة نامية خلال تسعينيات القرن العشرين».
وكان الاتفاق الوحيد في تاريخ مصر الذي نجح 100% دون أي انحراف أو إلغاء أو اضطرابات شعبية، وكان السبب الرئيسي في الازدهار الاقتصادي المصري أواخر التسعينيات الذي كان يُسمّى «المعجزة المصرية» في ذلك الوقت، كما يُعد آخر قرض حصلت عليه مصر لمدة 17 عامًا حتى الاتفاق التاسع في مايو 2010 الذي أُلغي، وصولًا إلى الاتفاق العاشر في عام 2016، وهو ما سنستكمله في المقال القادم.








