شهدت مصر فى العام الحالى اهتماماً متزايداً بالشمول المالى، تمثل هذا الاهتمام فى رعاية مؤسسة الرئاسة ورئاسة الوزراء والبنك المركزى المصرى لمؤتمر الشمول المالى الذى عقد فى شرم الشيخ فى شهر سبتمبر 2017، إلى جانب العديد من الفعاليات التى تهدف إلى تطبيق الشمول المالى كأحد الخيارات الاستراتيجية لتحقيق السلامة المالية.
وعلى الصعيد الدولى، يتزايد الاهتمام بوضع الاستراتيجيات التى ترسم معالم الطريق لمختلف الجهات المسئولة عن تطبيق مبادرات الشمول المالى، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاطر المرتبطة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، فهل تدرك الجهات الرقابية وجميع اللاعبين الأساسين فى قطاع الخدمات المالية كيفية تحقيق التوازن بين تطبيق الشمول المالى من جهة، ومن جهة أخرى إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب؟
صدر فى شهر نوفمبر الجارى تقرير من مجموعة العمل المالى (فاتف)، وهى منظمة حكومية دولية أُنشئت فى عام 1989 مسئولة عن وضع المعايير وتعزيز التنفيذ الفعال للتدابير القانونية والتنظيمية والتشغيلية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتهديدات الأخرى ذات الصلة بنزاهة النظام المالى الدولى.
هذا التقرير يتناول العلاقة بين الشمول المالى وتدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب من زاوية تقييم المخاطر والتخفيف من آثارها فى سياق الشمول الماليى، وعملية العناية الواجبة تجاه العملاء لدعم الشمول المالى، والممارسات الدولية الرائدة فى تطبيق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على الشرائح المستهدفة من الشمول المالى. لذلك أرى من الضرورى تسليط الضوء على ملخص لأبرز ما جاء فى هذا التقرير حتى يمكن السير قدماً فى تطبيق الشمول المالى بطريقة ميسرة، وإدراك التحديات القائمة، وفى الوقت ذاته تحقيق التوازن المعقول مع المتطلبات القانونية والتنظيمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
بصفة عامة، الشمول المالى يعنى إتاحة إمكانية الحصول على مجموعة كافية من الخدمات المالية الأمنة وبأسعار معقولة للفئات المحرومة وغيرها من الفئات المهمشة، بما فى ذلك الأشخاص ذوى الدخل المنخفض وقاطنى المناطق الريفية، والذين لا يملكون المستندات اللازمة التى تمكنهم من الحصول على خدمات مالية، أو المستبعدون من الخدمات التى يقدمها القطاع المالى الرسمى، ولأغراض مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يجب تقديم هذه المنتجات والخدمات المالية من خلال المؤسسات المالية الخاضعة لإشراف جهات رقابية.
يفتقر نحو 2.5 بليون شخص بالغ فى جميع أنحاء العالم إلى إمكانية الحصول على حساب مصرفى رسمى، حيث يمثل هذا الرقم نحو 50% من السكان البالغين فى العالم، ويتركز معظم هؤلاء الأفراد فى الاقتصادات النامية، ومع تفاوتات واسعة بين المناطق الجغرافية، تتراوح هذه النسبة بين 18% فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 39% فى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى.
هناك العديد من الأسباب التى تجعل الأفراد أو المجموعات لا يستفيدون تماماً من مقدمى الخدمات المالية الرئيسية، بحسب دراسة نشرها مؤخراً البنك الدولى تبين على الصعيد العالمى الأسباب الأكثر شيوعاً فى عدم وجود حساب مصرفى.
اتضح أن أحد أهم الأسباب يرجع إلى عدم امتلاك المستندات اللازمة لفتح حساب مصرفى أو للحصول على خدمات مالية أخرى، حيث أن متطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لا تأخذ بعين الاعتبار الأثر السلبى المحتمل لهذه المتطلبات على فاعلية جهود الشمول المالى، وفى بعض الحالات، تعنى هذه المتطلبات أنه ينبغى إنهاء الخدمات المقدمة إلى العملاء الحاليين الذين لا يستطيعون تقديم المستندات اللازمة أو تحديثها، وفى حالات أخرى قد يعنى ذلك أن العملاء المحتملين لن يتمكنوا من التعامل مع النظام المالى الرسمى.
يمكن أن تؤدى متطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب إلى زيادة تكلفة ممارسة الأعمال التى قد تتحملها المؤسسات المالية، مما يقلل من الأرباح المحتملة ويجعل الفئات التى لا تتعامل مع القطاع المالى الرسمى شريحة أقل جاذبية لتزويدهم بالمنتجات والخدمات المالية الأساسية، ويمكن أيضاً تُمرر هذه التكاليف إلى العملاء، مما يُحتمل أن يُثنى البعض عن استخدام النظام المالى الرسمى، خاصة إذا كانت الخيارات غير الرسمية أرخص وعلى نفس الدرجة من الموثوقية.
ولعل من المهم أن نشير إلى وجود الاقتصاد السرى الذى يعمل بطريقة غير رسمية ويجذب الأموال المشروعة جنباً إلى جنب مع المعاملات غير المشروعة، ومن ثم يمكن لمقدمى الخدمات المالية البديلة فى الاقتصاد غير الرسمى أن يصبحوا قناة جاهزة للمعاملات غير المشروعة التى يصعب على السلطات المعنية كشفها، وبالتالى تقويض جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لذلك، ينبغى إعفاء الفئات المحرومة من الخدمات المالية من بعض متطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب استناداً إلى المخاطر المنخفضة المرتبطة بمعاملاتهم، وتطبيق متطلبات العناية الواجبة المخففة استناداً إلى طبيعة الخدمات منخفضة المخاطر المقدمة إليهم.
وفى هذا الصدد، أدت أهداف الشمول المالى فى عدد من البلدان إلى تصميم ما يسمى بالنهج «التدريجى» أو «المتدرج»، فيمكن للعملاء الانتفاع بالخصائص والمميزات التى توفرها حسابات مختلفة اعتماداً على مدى استيفاء متطلبات فتح الحساب والتحقق من الهوية التى تجريها المؤسسة المالية، أى أن الخدمات المقدمة يتم توسيع نطاقها بالتناسب مع مستوى الحصول على بيانات العميل، فيتم تحديد عدة مستويات من الخدمات تزيد باستيفاء المستندات والبيانات من العميل.
لا تعنى إجراءات العناية الواجبة المخففة تجاه العملاء الإعفاء التام من الإجراءات المعقولة المتبعة مع باقى العملاء، ولكنها تعنى تنفيذ مجموعة مبسطة من الإجراءات الأساسية للعناية الواجبة باستيفاء الحد الأدنى، ومع ذلك يجب الحفاظ على العناصر الأساسية الأربعة المكونة لبرنامج العناية الواجبة تجاه العملاء وهى تحديد التحقق من العملاء، وتحديد التحقق من المالك الحقيقى، وفهم الغرض من الحساب وطبيعة المعاملات، والمتابعة المستمرة للمعاملات، ومن الأمثلة الأخرى على التخفيف المطلوب تقليل دورية تحديث بيانات العميل، والإعفاء من الحصول على بعض معلومات، واستنتاج الغرض والطبيعة المقصودة لعلاقة العمل من نوع المعاملات أو طبيعة نشاط أو مهنة العميل.
الخلاصة أن تعزيز النظم والخدمات المالية الرسمية هو أمر محورى فى أى نظام فعال وشامل لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومع ذلك، فإن تطبيق أسلوب شديد الحذر إزاء تطبيق متطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب يمكن أن يؤدى إلى نتيجة عكسية تتمثل فى استبعاد الأفراد والمنشآت التجارية المشروعة من النظام المالى الرسمى، مما يحدث ضرراً بالغاً فى تحقيق أهداف الشمول المالى.
