عقب استعراض تاريخ العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي في المقالات السابقة، ومع اقتراب انتهاء مدة الاتفاق الأخير لمصر مع الصندوق، والمقرر له يونيو 2026، يبرز تساؤلان جوهريان: ماذا قدّم الصندوق؟ وماذا بعد انتهاء الاتفاق؟.
يمثل اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لحظة الحقيقة الاقتصادية لأي دولة تمر بأزمة، نتيجة تراكمات من السياسات الاقتصادية التي لم تكن ملائمة لظروفها وإمكاناتها. وهو حال المريض الذي تأخر في تعاطي الدواء، فأصبح الحل في التدخل الجراحي؛ وتتمثل «العملية» وفقًا لصندوق النقد في تطبيق برامج اقتصادية صارمة.
الصندوق يتجه إلى المرونة
خلال الثمانينيات والتسعينيات، اعتمد الصندوق على ما يُعرف بـ«إجماع واشنطن»، وهو حزمة من السياسات الاقتصادية شملت الانضباط المالي (تقليص العجز عبر التقشف)، وتحرير التجارة والأسعار، وخصخصة الشركات والخدمات الحكومية، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتبني مرونة سعر الصرف، وذلك من خلال برامج التكيف الهيكلي. وباختصار، هدفت هذه السياسات إلى ضبط الأوضاع النقدية والمالية، وخفض الإنفاق، وتحسين فرص تدفق رؤوس الأموال عبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة.
إلا أنه بعد الأزمة المالية الآسيوية، ثم الأزمة المالية العالمية، اتجه الصندوق إلى قدر أكبر من المرونة، عبر التركيز على الحماية الاجتماعية، وتخفيف حدة التقشف، مع السماح بالتوسع المالي في بعض الحالات، خاصة بعد عام 2008، إلى جانب التركيز على الإصلاحات الهيكلية الرئيسية مع مراعاة السياق الوطني لكل دولة.
وبعد جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، ركز الصندوق على تعزيز القدرة على الصمود أمام الصدمات، مثل التغيرات المناخية والأزمات العالمية المفاجئة، مع مرونة أكبر في الشروط من خلال التعاون مع البنك الدولي. وغالبًا ما تقترن برامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي بتعاون وثيق مع البنك الدولي، بهدف تخفيف الآثار الاجتماعية للإصلاحات، والتي انعكست في تجارب سابقة على ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في عدد من الدول.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: مصر وصندوق النقد الدولي.. تاريخ وعِبَر (1)
وقد طُبق هذا النهج في الحالة المصرية عند الاتفاق على برنامج الإصلاح الاقتصادي في التسعينيات، حيث قدم البنك الدولي آنذاك عددًا من القروض الميسرة لدعم ميزان المدفوعات وتوفير السيولة اللازمة للإصلاحات. كما ساهم بدور محوري في تأسيس «الصندوق الاجتماعي للتنمية» عام 1991، بهدف امتصاص الآثار الجانبية للإصلاح الاقتصادي، وتوفير شبكة أمان للعمال الذين خرجوا إلى المعاش المبكر نتيجة الخصخصة، إلى جانب تمويل المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر للشباب كبديل للتوظيف الحكومي الذي توقف ضمن خطة التقشف.
وشمل دور البنك الدولي أيضًا تمويل مشروعات البنية التحتية كثيفة العمالة في القرى باستخدام العمالة اليدوية للحد من البطالة، فضلًا عن تقديم الخبرات والتمويل في مجالات إصلاح قطاعي الطاقة والزراعة، وتطوير الإدارة العامة، وإصلاح القطاع المصرفي، ودعم قطاعي التعليم والصحة.
وفي برنامج 2016، قدم البنك الدولي تمويلًا لبرنامج «تكافل وكرامة»، مع ربط الدعم باستمرار الأطفال في التعليم والحصول على الرعاية الصحية. كما ساهم في تطوير قطاع الطاقة من خلال قانون الكهرباء الجديد، الذي سمح للقطاع الخاص بإنتاج وبيع الطاقة، وهو ما أسفر عن ظهور مشروعات كبرى، مثل محطة «بنبان» للطاقة الشمسية، التي حظيت بتمويل ودعم فني من مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي. كذلك ركز البنك على حوكمة الشركات المملوكة للدولة، وتقديم الاستشارات في مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمساهمة في إعداد برنامج الطروحات الحكومية، الذي تتولى مؤسسة التمويل الدولية دور المستشار الاستراتيجي له.
مصر وصندوق النقد.. ماذا بعد الاتفاق الأخير؟
والآن، ومع اقتراب انتهاء برنامج صندوق النقد مع مصر في يونيو 2026، تبرز الحاجة إلى تقييم ما تحقق واستشراف مستقبل الاقتصاد المصري. فالواقع أن التعامل مع الصندوق منذ ستينيات القرن الماضي، رغم تطور أدواته وبرامجه، كشف عن نمط متكرر من التحديات والحلول، مع دروس رئيسية يمكن الاستفادة منها لبناء اقتصاد قوي قادر على مواجهة الصدمات، وتمكين المواطنين اقتصاديًا للخروج من دوائر الفقر المزمن.
وقد نجحت الاتفاقيات منذ الستينيات وحتى التسعينيات في تحقيق استقرار قصير الأجل، مثل خفض معدلات التضخم، لكنها أخفقت على المدى الطويل نتيجة تأجيل الإصلاحات الهيكلية والحد من دور الدولة. وبرز ذلك في الحالة المصرية عام 2003، بعد نجاح برنامج التسعينيات، حين واجه الاقتصاد صدمات خارجية، مثل الأزمة الآسيوية وحرب العراق، ما دفع الحكومة إلى تبني برنامج إصلاح وطني دون اللجوء إلى الصندوق، شمل تحريك سعر الصرف، وتنفيذ بعض الإصلاحات الهيكلية، وخصخصة عدد من الشركات الحكومية. وتكرر المشهد خلال الفترة من 2011 إلى 2016، مع ارتفاع الدين العام إلى نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد أسهمت الطروحات الحكومية الأخيرة في تعزيز معدلات النمو وجذب الاستثمارات الأجنبية، التي وفرت تدفقات دولارية غير مسبوقة، ما يؤكد أن نمو القطاع الخاص يمثل مفتاح الخروج من الدورات الاقتصادية المتكررة المرتبطة بالاعتماد على الواردات والصدمات الخارجية.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: مصر وصندوق النقد الدولي.. تاريخ وعِبَر (2)
كما كشفت أزمات كورونا، وحربي أوكرانيا وغزة، أن الاعتماد المفرط على السياحة وقناة السويس يجعل الاقتصاد عرضة للصدمات. وقد ينجح التمويل الطارئ في دعم النمو مؤقتًا، لكنه لا يحقق الاستقرار الاقتصادي دون دمجه بتنويع مصادر الإيرادات، ومرونة سعر الصرف. كذلك، فإن الإصلاحات المرتبطة بخفض الدعم وتحرير أسعار السلع والخدمات قد تؤدي إلى اتساع رقعة الفقر ما لم تصاحبها برامج حماية اجتماعية فعالة، مثل «تكافل وكرامة».
وبوجه عام، ساعدت الاتفاقيات مصر على تحقيق متوسط نمو يقترب من 4% سنويًا منذ 2016، وجذبت استثمارات أجنبية مباشرة، وفتحت قنوات تمويل إقليمية كبرى، مثل صفقة رأس الحكمة التي جذبت نحو 35 مليار دولار في 2024. لكنها في الوقت نفسه أبرزت الحاجة إلى تحول جذري نحو اقتصاد خاص ومستدام، عبر مشروع اقتصادي وطني يرتكز على الإصلاحات الهيكلية ومكافحة الفقر، من خلال تعزيز الحوكمة، والإصلاح الإداري، والتحول الرقمي، وتقليص بصمة الدولة في الاقتصاد، وتوسيع صلاحيات جهاز حماية المنافسة، وتعزيز الشمول المالي، وتوسيع القاعدة الضريبية مع إصلاح المنظومة، وتحسين بيئة الأعمال، وتشجيع الإنتاج، مع إعطاء أولوية قصوى للاستثمار في الإنسان، لا سيما في مجالي الصحة والتعليم.
في المحصلة، تركز برامج صندوق النقد الدولي على تحقيق الاستقرار النقدي واستيفاء المستهدفات الرقمية، بينما تُهمل في كثير من الأحيان التحول الإنتاجي الحقيقي. فالصندوق يمنح الدول وقتًا عبر السيولة، وإذا لم يُستغل هذا الوقت في بناء اقتصاد حقيقي، فإن العودة إلى الصندوق تصبح مسألة وقت لا أكثر.








