لغة الإشارة هي ركن أساسي من أركان التواصل الإنساني؛ إنها ليست مجرد إيماءات أو حركات، بل هي لغة متكاملة، وثقافة، وهوية لملايين الأشخاص حول العالم من ذوي التحديات السمعية. هي اللغة التي تمنح الفرد القدرة على التعبير عن ذاته، والوصول إلى المعرفة، والمشاركة بفاعلية في الحياة المجتمعية والاقتصادية. هذا الاعتراف العميق بأهمية لغة الإشارة يأتي من إدراك أن حق التواصل هو حق إنساني أصيل لا يجوز المساومة عليه أو تقييده، بل يجب توفير جميع الوسائل اللازمة لضمانه.
هذه القيمة العالمية هي التي دفعت المجتمع الدولي للاحتفاء بها، حيث أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 23 سبتمبر من كل عام يومًا عالميًا للغة الإشارة. هذا اليوم، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2017، يُعد تذكيرًا عالميًا بضرورة ضمان وسائل تواصل عادلة ومتاحة للجميع.
تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 70 مليون شخص من ذوي التحديات السمعية حول العالم يتواصلون عبر أكثر من 300 لغة إشارة، يعيش 80% منهم في الدول النامية. أما في مصر، فتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن ذوي الهمم يشكلون نحو 15% من السكان، أي ما يقارب 12 مليون مواطن. هذه الأرقام تضع أمامنا مسؤولية حقيقية، فالقضية لم تعد مسألة تعاطف أو مبادرات مؤقتة، بل حق أصيل يجب أن يترجم إلى سياسات وممارسات فعلية على الأرض.
التمكين الاقتصادي لذوي الهمم لم يعد رفاهية، بل هو مؤشر على نضج المجتمع وقدرته على الاستفادة من كل طاقة بشرية متاحة. والأمم المتحدة تتبنى نهجًا واضحًا يقوم على الدمج الشامل وتعددية الجوانب والتنسيق بين الحكومات والقطاع الخاص. نحن في مصر، في ظل “الجمهورية الجديدة”، قطعنا خطوات ملموسة في هذا الملف، حيث أصبح دعم ذوي الهمم جزءًا أصيلًا من رؤية الدولة لبناء مجتمع أكثر عدالة وشمولية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في استعداد القطاع الخاص لاحتضان هذه الرؤية وتحويلها إلى واقع. وهنا يأتي دور قطاع المطاعم والضيافة كأحد أكثر القطاعات ارتباطًا بالتنوع البشري، حيث يستقبل يوميًا آلاف الضيوف من خلفيات مختلفة، بعضهم يحتاج إلى تسهيلات خاصة. في هذه الحالة، يصبح وتبني ممارسات شاملة ودمج لغة الإشارة أكثر من مجرد مسؤولية اجتماعية؛ إنه ميزة تنافسية ورسالة إنسانية في آن واحد.
على مدار ثلاث عقود من الخبرة والعمل في قطاع إدارة المطاعم، أصبحت أؤمن أن “الضيافة الحقيقية تبدأ بالاستمتاع بالتجربة”، وبأكثر من معنى مجازي. الاستماع هنا يعني الاستعداد لفهم طرق تواصل الزائرين والموظفين المختلفة، والقدرة على تعديل تجربة الضيافة بحيث تصبح متاحة ومريحة لكل إنسان، ولذلك، تصبح دمج لغة الإشارة ليست مجرد “أداة بديلة”، بل هي مفتاح لتمكين جزء كبير من المجتمع من الوصول إلى الخدمات، والتمكين الاقتصادي، والاندماج الاجتماعي.
لقد طبّقنا في أمريكانا للمطاعم هذا الإيمان عمليًا. اليوم نفخر بأن لدينا 7 فروع في مصر تُدار ب بفريق عمل من أصحاب التحديات السمعية، وكانت التجربة أكثر من ناجحة: استثمارنا في التدريب المستمر وفتح مسارات مهنية حقيقية أدّى إلى مستويات التزام وإنجاز وإبداع لدى هؤلاء الزملاء تفوقت على كثير من التوقعات المسبقة. الموظف من ذوي الهمم يحتاج الى فرصة وتيسير.
لكن ما يجعل هذه القضية أعمق من مبادرة شركة، هو أن دمج ذوي الهمم يجب أن يتحول من «امتثال» إلى «استثمار استراتيجي» على مستوى كل القطاع الخاص. هذا التحول يتطلب ثلاث مكونات عملية وواضحة: الأول، سياسات توظيف فعّالة ومكفولة داخل الشركات تتضمن تدريبًا مستمراً وتطوير مسارات مهنية؛ الثاني، استثمار في بناء القدرات لدى بقية فرق العمل لدعم ذوي الهمم مثل فهم لغة الإشارة واستخدام أدوات تكنولوجية مساعدة؛ الثالث، شراكات حقيقية مع الحكومة والمنظمات المدنية لتيسير البنية التشريعية والتنفيذية التي تضمن الدمج لا كخيار بل كمعيار.
التمكين الاقتصادي لذوي الهمم ليس رفاهية مجتمعية؛ إنه مقياس حقيقي لنضجنا الاقتصادي والاجتماعي. عندما نمنح الفرص، فإننا لا نقوم بخدمة إنسانية، بل نضيف قيمة حقيقية لسوق العمل ونحسّن جودة الخدمة ونبني سمعة مؤسسية تقوم على المسؤولية والابتكار. وفي قطاع الضيافة على وجه الخصوص، يمكن للشمول أن يصبح ميزة تنافسية: فالمطعم أو الفندق الذي يتيح تجربة مريحة ومتاحة للجميع يكسب شريحة عملاء أكبر وولاء أطول، كما يكسب مجتمعًا أفضل.
أدعو اليوم جميع قادة القطاع الخاص في مصر إلى أن يروا ما فعلناه كفرصة لا كمهمة أخلاقية فحسب، بل كاستثمار يعود بالفائدة على شركاتهم ومجتمعاتهم. وأشكر الحكومة على تسريع تنفيذ السياسات الداعمة، وتسهيل الشراكات التي تربط بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني لتوسيع نطاق هذه التجارب الناجحة.
ختامًا:لا يجب أن يكون يوم 23 سبتمبر محطةً وحيدةً للاحتفاء والتذكير، بل منصة ننطلق منها نحو التزام مستمر على مدار العام. التزامنا المجتمعي أن تبقى الخدمات التعليمية والصحية والعملية متاحة للجميع دون استثناء. علينا أن نتذكر دائمًا أن لغة الإشارة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي هوية وثقافة وحق أصيل من حقوق الإنسان. فلنواصل العمل معًا لبناء مجتمع أكثر شمولية وعدالة، ولنكن شركاء حقيقيين في الدمج والتمكين على مدار العام، لا في يوم واحد فقط.








