نادراً ما كان الاقتصاد متوسط الأداء سبباً لهذا القدر من الارتياح.
فبعد ستة أشهر من كشف البيت الأبيض عن رسوم جمركية باهظة، حافظ الاقتصاد العالمي على وضعه الجيد، وكان مردّ ذلك أساساً إلى تجاوزه بعض التوقعات المتشائمة.
لم نشهد أي ركود، ثم عُدّلت التوقعات بعض الشيء.
تخيّلوا فقط كيف يمكن للأمور أن تسير على ما يرام دون أن تُلحق بها الدولتان الأهم قدراً من أذى؟
فبعد بضعة أشهر من التصريحات الإيجابية من أمريكا والصين، توترت العلاقات مجدداً بعدما فرضت بكين قيوداً على صادرات العناصر الأرضية النادرة الضرورية لتصنيع كل شيء، من السيارات إلى الطائرات المقاتلة.
في المقابل، هدّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على بكين.
وما يزال هناك أمل في أن تتجنب العلاقات التجارية انهياراً أخطر. وقد ألمح وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى فترة تهدئة طويلة.
إن عدم ظهور أي تباطؤ اقتصادي في الأفق حتى الآن يروي فصولاً عن المنعة التي يتسم بها عصرُنا هذا.
فأستراليا، التي تُعتبر الصين والولايات المتحدة من بين أكبر ثلاثة شركاء تجاريين لها، لا تعتبر وضعها حرجاً.
وقالت رئيسة البنك الاحتياطي الأسترالي ميشيل بولوك حديثاً: “نحن في وضع جيد جداً”.
وحرصت بولوك على التمييز بين ذلك وبين صورة أكثر تشاؤماً في الخارج، وبيّنت أنها لا توافق على ما وصفته بالنظرة “الوردية” للأسواق.
لكن تكثر التحذيرات من احتمال حدوث ركود، بل حتى ركود كارثي، ففي نهاية المطاف، لا يمكن تحطيم كل هذا الكمّ من الأواني الفخارية كما فعل فريق ترامب دونما عواقب.
ليس على ما يرام، لكنه ليس بقدر المخاوف
إن كنتم تبحثون عن بضع كلمات توجز وصف التوسع العالمي المستمر منذ أربع سنوات، فقد يكون الاقتصاد القائم على مبدأ: “نعم، ولكن” ناجحاً.
لقد أعاقت المحاذير النشاط الاقتصادي منذ بدأت الشركات بالتعافي من جائحة كوفيد. وغذّى السخاء المالي والنقدي هذا الانتعاش، إذ هدّدت الزيادات السريعة في أسعار الفائدة، لمكافحة التضخم اللاحق، بحدوث ركود.
لكن ذلك لم يحدث.
ثم جاء يوم التحرير في الثاني من أبريل بإعلان الرسوم الجمركية، ولم يتراجع النمو بعد.
قال بيير أوليفييه غورينشا، كبير اقتصاديّي صندوق النقد الدولي، للصحفيين الأسبوع الماضي: “الوضع ليس سيئاً كما كنا نخشى، ولكنه أسوأ مما توقعناه قبل عام، وأسوأ مما نحتاج”.
ورفع صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي هذا العام إلى 3.2%، بزيادة طفيفة عن نسبة 3% المتوقعة في يوليو، وسيتراجع في عام 2026 إلى 3.1%، وهو أمرٌ بعيد كل البعد عن عوامل وقوع كارثة.
ربما تكون زيادة الصادرات قبل تطبيق بعض الرسوم، وسباق الاستثمارات المحموم في الذكاء الاصطناعي، قد عوّضتا الضرر الناجم عن الاضطرابات التجارية.
ويثير الاستثمار الهائل في الذكاء الاصطناعي كثيراً من مخاوف أخرى، حتى إن غورينشا قارن ذلك بتجربة فقاعة الإنترنت في التسعينيات، التي أسهمت، عند انفجارها في النهاية، في ركود اقتصادي عام 2001.
لكن لا ينبغي أن نكون قساةً في حكمنا على التسعينيات، فهي تُذكر كفترة ازدهار كبير في الغرب، صاحبها قدر من الهباء، لكن المكاسب الاقتصادية كانت حقيقية.
ووصف آلان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، الذي كان في طريقه إلى أن يصبح من أساطين الاقتصاد، تلك الحقبة بأنها تنتمي إلى “اقتصاد جديد”، وهو تحوّل نموذجي، إذ سمحت الاستثمارات الضخمة في التقنية بتسارع النمو دون توليد تضخم كبير.
وحاجج آنذاك بأن ذلك كان ممكناً بفضل تحسينات الإنتاجية التي تحققت جرّاء هذا، ولم يكن مخطئاً.
العزلة ستضعف قطبي الاقتصاد العالمي
ما الذي قد يغيب إذاً عن أرقام الإيرادات القوية اليوم؟
أولاً، لا تبدو أيٌّ من القوتين العُظميين بهذا القدر من العظمة منعزلتين.
وقد صنّف صندوق النقد الدولي التوقعات لكلٍّ من الولايات المتحدة والصين على أنها أقل.
وسيرتفع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 2% هذا العام، بانخفاض ملحوظ عن الأشهر الاثني عشر السابقة، وسيظل قريباً من هذا المستوى.
ويُتوقع أن يتراجع معدل النمو الاقتصادي في الصين من 4.8% إلى 4.2% في عام 2026، وفقاً للتقديرات (في السنوات الأخيرة، استهدفت الحكومة نمواً بنحو 5%).
ولم تهدأ العوامل التي أثقلت كاهل الصين، من انهيار سوق العقارات، والاعتماد المفرط على الصادرات، وضعف الطلب المحلي، إلى الانكماش.
فقد أظهرت أحدث الأرقام أطول انخفاض في الأسعار منذ سبعينيات القرن الماضي.
كما أن للاقتصاد الأمريكي مشكلاته، إذ بينما أدى إغلاق الحكومة إلى تأخير إصدار بيانات رئيسية حول التوظيف وغيرها من المؤشرات، فإن أي حل لهذا التعطيل سيُطلق سيلاً من المعلومات حول حالة الاقتصاد.
ويتوقع بعض المستثمرين أن يقدم هذا السيل من المعلومات مزيداً من الأدلة على الضعف لدعم مزيد من التيسير النقدي.
ويراهن المتداولون على تخفيض كبير واحد على الأقل في أسعار الفائدة من “الاحتياطي الفيدرالي”.
لكن، رغم كل هذه العيوب وغيرها، ما تزال الاقتصادات الرئيسة تمضي قُدُماً. ونادراً ما بدا الكأس نصف ممتلئ بهذا القدر من الجاذبية.








