أدت سلسلة الصدمات السلبية التي حدثت على مدى السنوات الأربع الماضية، للشعور بالهلع من موجات تضخم عالية في حقبة ما بعد جائحة كورونا. وبعد الانهيار العالمي في بداية الجائحة أوائل عام 2020، بدأ التضخم العالمي، الارتفاع في وقت لاحق من العام مع انتعاش الطلب، وزيادة الاختناقات في جانب العرض، وارتفاع أسعار النفط.
وزاد ارتفاع التضخم في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا مع ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية وتعطل الإمدادات مجددًا، ومنذ يوليو2022، بدأ التضخم العالمي في التراجع على نحو مطرد.
وتشير توقعات الخبراء، وتوقعات التضخم المستندة إلى الأسواق المالية، واستطلاعات المستهلكين، والتقديرات المستندة لنماذج محددة، إلى الاتجاه نفسه، ألا وهو تراجع التضخم العالمي.
وبناء على هذا التوافق في الآراء، تتوقع الأسواق المالية الآن، أن تخفض البنوك المركزية الكبرى أسعار الفائدة في النصف الأول من 2024، وبناءً عليه، هل انتهى الهلع من موجات التضخم العالية؟.
تشير الرسائل من البنوك المركزية الرئيسية ، الشهر قبل الماضي إلى إجابات متباينة، فقد أشار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى تحول محتمل في مواقفه وسياساته، مما جعل مسار أسعار الفائدة أقرب إلى توقعات السوق.
لكن البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا تمسكا بمواقفهما السابقة، مشيرين إلى أن التحول في مواقفهما وسياستهما لن يكون ممكنا إلا إذا ظهرت أدلة موثوقة على استمرار تراجع معدلات التضخم.
لكن ثمة أسباب تدعو إلى التفاؤل. وثمة عوامل كثيرة يجب أن تؤدي إلى مزيد من الانخفاض في التضخم العالمي خلال الأشهر المقبلة، وسيكون هذا التوقع مشفوعا بحذر إلى أن يحدث ذلك.
ولا تزال هناك بعض المخاطر التي يمكن أن تؤخر تراجع التضخم أو تزيد ضغوط الأسعار.
أسباب تبعث على التفاؤل
تشير جميع العوامل الأساسية للتضخم إلى أن التضخم العالمي يجب أن يتراجع في الأشهر المقبلة نظراً لأن الطلب العالمي آخذ في الانخفاض، فضلاً عن تراجع تعطل الإمدادات، وانخفاض أسعار السلع الأولية، وبقاء السياسات النقدية المتشددة.
والتضخم متزامن وشائع بدرجة كبيرة بين البلدان، ما يعني ضمنا أن هذه العوامل ستؤدي على الأرجح إلى خفض معدلات التضخم في جميع أنحاء العالم، ومن المتوقع أن يتراجع الطلب العالمي في السنة القادمة في ظل تشديد الأوضاع المالية، وضعف التجارة العالمية، ومحدودية المساندة المالية.
وتمثل العوامل المرتبطة بالطلب العالمي نحو 30% من التباين في معدلات التضخم، ومع تباطؤ النشاط العالمي، سيتضاءل أثر هذه العوامل، المرتبطة بالطلب، على التضخم، ومن المتوقع أيضاً أن يسهم تراجع الضغوط على جانب العرض عالمياً في انخفاض التضخم العالمي.
وقد تراجعت هذه الضغوط في الآونة الأخيرة إلى أدنى مستوياتها التاريخية بسبب الضعف واسع النطاق في تجارة السلع وتراجع تعطل الإمدادات التي حدثت في وقت الجائحة. ورغم أن أسواق العمل لا تزال محدودة، فقد تراجعت فرص العمل الشاغرة تدريجياً، وكان نمو الأجور متواضعاً بشكل عام في الولايات المتحدة وبعض بلدان الاقتصادات المتقدمة الأخرى.
وبعد أن انخفضت أسعار النفط بنسبة 17% العام الماضي 2023، من المتوقع أن تواصل الانخفاض في 2024 إذ يؤدي ضعف النمو العالمي إلى خفض الضغوط على جانب الطل، وتلعب أسعار النفط دوراً غاية في الأهمية في زيادة التضخم العام العالمي.
وظهر ذلك بوضوح من خلال المستجدات والتطورات التي أعقبت الجائحة. والواقع أن تحركات أسعار النفط تمثل نحو 40% من التقلبات في معدلات التضخم.
وستظل السياسة النقدية المتشددة قائمة في بلدان الاقتصادات الكبرى لضمان عودة التضخم إلى المستويات المستهدفة للبنوك المركزية.
ورغم الانخفاض الأخير في موجات التضخم، شددت البنوك المركزية الرئيسة الثلاثة، على عزمها الإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة، إلى أن ترى أدلة وشواهد مقنعة باختفاء ضغوط الأسعار، وقد أشار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بالفعل إلى إمكانية خفض أسعار الفائدة في عام 2024.
والمعنى الضمني هو أنه حتى إذا بدأت البنوك المركزية في خفض أسعار الفائدة، فإنها ستبقيها مرتفعة على نحو يكفي لدفع ضغوط الأسعار إلى الانخفاض. ومن المتوقع أن تؤدي الآثار المستمرة والتالية لأسعار الفائدة الحقيقية المرتفعة إلى إضعاف النشاط العالمي، وهذا يزيد من تخفيف آثار القوى التضخمية في الأشهر المقبلة.
لكن ثمة سببان رئيسان على الأقل يلزمانا بتوخي الحذر بشأن وتيرة تراجع التضخم في المستقبل، وهما احتمال حدوث صدمة تضخمية ناجمة عن التوترات الجيوسياسية، واستمرار الضغوط التي أبقت التضخم الأساسي مرتفعاً.
ولا تزال البنوك المركزية قلقة بشأن ما إذا كان بإمكانها خفض معدلات التضخم إلى مستوياتها المستهدفة دون التسبب في تراجع حاد في النشاط.
وكان انخفاض معدل التضخم الأساسي العالمي أقل من تراجع معدل التضخم العام على مدى الأربعة عشر شهراً الماضية، وأدى استمرار ضغوط الأسعار على مستوى الخدمات، مدفوعة بقوة الطلب، إلى الحد من تراجع معدلات التضخم الأساسي.
وفي المرحلة المقبلة، يجب أن يستمر انخفاض تضخم الأسعار الأساسية لإقناع البنوك المركزية بأنه تم إحكام السيطرة على الضغوط التضخمية. ومن المرجح أن يتطلب ذلك مزيداً من ترشيد الطلب، خصوصا على الخدمات، ناهيك عن أسواق العمل التي تشهد مراحل ضعف.
وكانت التوترات الجيوسياسية من القوى التضخمية الخطيرة على مدى عشرات السنين. وقد يكون الصراع الذي شهدته الآونة الأخيرة في الشرق الأوسط-في أعقاب الاضطرابات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا – محركاً رئيساً آخر للتضخم بسبب زعزعة استقرار أسواق الطاقة العالمية.
ورغم أن أثره محدود حتى الآن، فإن تصاعده يمكن أن يؤدي إلى زيادة حادة في أسعار النفط حيث تنتج المنطقة نحو 30% من النفط العالمي، وعندما ترتفع أسعار النفط بنسبة 10%، يزداد معدل التضخم العالمي بواقع 0.35% خلال عام.
ويمكن أن تؤثر هذه الزيادة في أسعار النفط أيضاً على التضخم الأساسي، إذا كانت هناك تأثيرات كبيرة للجولة الثانية على الأجور وتكاليف الإنتاج الأوسع نطاقاً، وزادت توقعات التضخم.
ورغم تراجع التضخم على مستوى العالم خلال العام الماضي، فإنه لا يزال أعلى من المستوى المستهدف في ثلثي البلدان التي تستهدف خفض معدلاته.
ويتوقع الخبراء أن يظل التضخم أعلى من المستوى المستهدف في أكثر من 50% من هذه البلدان في العام المقبل.
وانخفض معدل التضخم في العديد من بلدان الاقتصادات النامية خلال العامين الماضيين، لكنه لا يزال عند مستوى الخانتين في أكثر من 20% من بلدان هذه الاقتصادات.
ومن غير المرجح أن تقوم البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة بشكل حاد حتى تقتنع بأن معدل التضخم يعود إلى المستويات المستهدفة على نحو ثابت.
وهذا يعني أن السياسة النقدية ستظل متشددة، ويمكن أن تؤدي الاضطرابات المحتملة في أسواق الطاقة العالمية وسلاسل الإمداد إلى إطالة أمد المعضلة التي تواجه حالياً العديد من البنوك المركزية، وهي كيف يمكن خفض معدل التضخم لتحقيق المستوى المستهدف وضبط إيقاع الهبوط الهادئ.
والانخفاض الأخير في معدل التضخم علامة مبشرة، ولكن من السابق لأوانه الاحتفاء بذلك. ولا تزال هناك مخاطر يمكن أن تبطئ تراجع معدلات التضخم أو تدفعها إلى الارتفاع. ونظراً لأن معدلات التضخم تتزامن على مستوى العالم، فإن عودة معدلات التضخم إلى الزيادة في بلدان الاقتصادات المتقدمة يمكن أن تضر أيضاً ببلدان الاقتصادات النامية.








