رغم إطلاق شركة “نيسان موتور”، أول سيارة كهربائية منتجة على نطاق واسع في عام 2010، لا يزال العديد من المستهلكين حول العالم مترددين في الانتقال من السيارات التقليدية التي تعمل بمحركات الاحتراق إلى السيارات الكهربائية بالكامل.
وبالتالي، تحولت الآمال التي عقدتها شركات صناعة السيارات على التكنولوجيا الكهربائية إلى أزمة وجودية للصناعة، التي استثمرت عشرات مليارات الدولارات في تطوير السيارات الكهربائية والبطاريات، دون تحقيق توقعات الإقبال المنشود من المستهلكين.
الأسبوع الماضي، قدمت شركة “نورثفولت”، الرائدة في صناعة البطاريات في أوروبا، طلباً للإفلاس، مما أثار تساؤلات حول استراتيجية الصناعة في القارة بأكملها، بحسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
كما أعلنت شركة “ستيلانتس”، المالكة لشركة “فوكسهول”، عن خطط لإغلاق مصنعها للشاحنات في لوتون، ما يعرض حوالي 1,100 وظيفة في المملكة المتحدة للخطر، وذلك بعد أسابيع فقط من تحذير “فولكس واجن” من إغلاق مصانع بشكل غير مسبوق.
وفي السياق ذاته، كشفت شركة “فورد موتور” عن خطط لتقليص حوالي 4,000 وظيفة في أوروبا نتيجة الطلب الأبطأ من المتوقع على السيارات الكهربائية.
ترامب يهدد التحول إلى السيارات الكهربائية
وفقاً لما قاله ماثياس ميدريتش، المدير التنفيذي السابق لشركة صناعة مواد البطاريات “يوميكور” والمتوقع انضمامه إلى المورد الألماني للسيارات “زد إف فريدريشسهافن” في يناير، فإن شركات السيارات والموردين في أوروبا من المرجح أن يواصلوا التركيز على تقليل النفقات في العام المقبل بدلاً من توسيع إنتاج السيارات الكهربائية.
وأضاف أن عام “النهضة” للسيارات الكهربائية سيكون على الأرجح في 2026 وليس 2025″.
في الولايات المتحدة، يبدو الانتقال إلى الطاقة الخضراء مهدداً بسبب وعود الرئيس المنتخب حديثًا دونالد ترامب بإلغاء الإعانات السخية للسيارات الكهربائية.
وعلى الرغم من هدف الرئيس جو بايدن الطموح المتمثل في جعل السيارات الكهربائية تمثل نصف مبيعات السيارات الجديدة المباعة في البلاد بحلول عام 2030، إلا أنها لم تتجاوز نسبة 10% من السوق خلال العام الماضي.
تشير تقديرات “بيرنشتاين” إلى أن إنتاج السيارات الكهربائية من المتوقع أن ينخفض بنسبة 50% في الولايات المتحدة و29% في أوروبا العام المقبل، إذ يُتوقع أن تصل حصة السيارات الكهربائية إلى 23% من السوق في أوروبا و13% في الولايات المتحدة بحلول عام 2025.
“يبدو أن توقعات إنتاج السيارات الكهربائية لعام 2025 قد ذهبت في اتجاه واحد فقط، وهو التهاوي”، كما كتب المحلل دانييل رويسكا، من “بيرنشتاين” في تقرير حديث.
ارتفاع التكاليف وضعف الحوافز
تُعزى أسباب تراجع نمو مبيعات السيارات الكهربائية إلى ارتفاع التكاليف الأولية، إلى جانب مخاوف المستهلكين بشأن مدى القيادة، وضعف البنية التحتية للشحن.
كما تلاشى الوعد بانخفاض أسعار الطاقة مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، في حين أدت أسعار الفائدة المرتفعة عالمياً إلى زيادة تكاليف الإيجار الشهري.
أظهر تحليل أجرته منظمة غير حكومية تُعرف باسم “النقل والبيئة” أن متوسط سعر السيارات الكهربائية في أوروبا بلغ حوالي 40 ألف يورو قبل خصم الضرائب في عام 2020، وارتفع إلى حوالي 45 ألف يورو في الوقت الراهن.
ووفقاً لدراسة من المفوضية الأوروبية، فإن السعر المتوسط الذي يستعد المستهلكون الأوروبيون لدفعه مقابل سيارة كهربائية لا يتجاوز 20 ألف يورو، بما في ذلك السيارات الجديدة والمستعملة.
أثر الحوافز الحكومية على الطلب
يتوقع المحلل المستقل ماتياس شميدت أن تنخفض مبيعات السيارات الكهربائية في ألمانيا، أكبر سوق في أوروبا، بنسبة 29% هذا العام، وذلك بعد أن ألغت برلين بشكل مفاجئ دعم شراء السيارات الكهربائية في أواخر 2023.
أما في فرنسا، تخطط الحكومة لتخفيض دعم شراء السيارات الكهربائية بما يصل إلى النصف بالنسبة لبعض الأسر في العام المقبل.
كما قال مايكل لايترز، الرئيس التنفيذي لشركة “مكلارين”، إن الحوافز الحكومية لدعم شراء السيارات الكهربائية في الأعوام الأخيرة خلقت طلباً مصطنعاً غير مستدام.
وأوضح في مقابلة: “لقد دفعنا بقوة نحو السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، لكنني أعتقد أن الحوافز ليست صحية. لقد شهدنا تسارعاً غير طبيعي في الطلب، والآن نمر بمرحلة ركود”.
انقسام حول السياسات التحفيزية
ينقسم صُناع السيارات والمحللون حول أفضل مزيج من الحوافز لإعادة تنشيط مبيعات السيارات الكهربائية.
ويعتقد المديرون التنفيذيون في صناعة السيارات أن الحكومات الأوروبية تراجعت عن تقديم الحوافز قبل أن يعتاد المستهلكون على السيارات الكهربائية.
وفي المقابل، تدرك الحكومات أن استمرار تقديم الحوافز لفترة طويلة يمكن أن يكون مكلفاً وينطوي على مخاطر.
نجاح استراتيجية الصين
على الجانب الآخر، تظهر الصين نجاحاً لافتاً لاستراتيجية طويلة الأمد بدأت منذ نحو عقدين لتحويل صناعة السيارات لديها إلى كهربائية.
اليوم، يمثل أكثر من نصف السيارات الجديدة المباعة في الصين سيارات كهربائية أو هجينة قابلة للشحن، فيما تقترب أسعار السيارات الكهربائية في السوق الصينية من معادلة أسعار السيارات التي تعمل بالبنزين.
فقد جرى تبني سياسة التحول إلى السيارات الكهربائية في الصين في البداية للتخفيف من التلوث الخانق في المدن ومعالجة الاعتماد الكبير على البترول المستورد.
لكن هذه السياسة أصبحت الآن أداة لدعم إزالة الكربون ومنح الشركات الصينية طريقاً نحو الهيمنة العالمية في هذا المجال.
وبحلول أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، خلص المسؤولون الحكوميون إلى أن الشركات المحلية لن تكون قادرة على منافسة الشركات الغربية في مجال السيارات التي تعمل بالبنزين، مما دفعهم إلى تسريع استثماراتهم في القطاع الكهربائي.
رأت الصين فرصة للتفوق على شركات مثل “جنرال موتورز” و”فولكس واجن” في سوق السيارات الكهربائية، مستفيدة من سلسلة التوريد التي طورتها لإنتاج بطاريات الليثيوم أيون للهواتف المحمولة بكميات كبيرة وبتكلفة منخفضة.
كما تمتلك الصين ميزة في إنتاج المحركات الكهربائية، كونها من أكبر منتجي المعادن الأرضية النادرة.
في عام 2009، أطلقت بكين برامج تجريبية في 10 مدن لتشجيع استخدام السيارات الكهربائية، بهدف استثمار 100 مليار يوان (13.8 مليار دولار) في السيارات “الطاقة الجديدة” خلال العقد التالي.
في عام 2011، قدم البنك الدولي توصيات للصين لتوسيع سياساتها لتشمل البنية التحتية للشحن واستثمارات في تطوير التكنولوجيا والقدرات التصنيعية، مشدداً على أهمية إيجاد سوق تمويل للسيارات ونظام تأجير وسوق ثانوية للبطاريات لتخفيض التكلفة الأولية للشراء.
عندما أصدرت الحكومة الصينية خطتها لصناعة السيارات في صيف 2012، تبنت معظم توصيات البنك الدولي، واضعة استراتيجية شاملة لتطوير سلسلة التوريد بالكامل، من المكونات والبطاريات إلى المواد والبنية التحتية للشحن، بما في ذلك شبكات الكهرباء الذكية والطاقة المتجددة، وفقاً لتحليل شركة “أكين جامب”.
مقارنة بين الصين وأوروبا
قال أندرو بيرجباوم، المدير التنفيذي لشركة “أليكس بارتنرز”: “تم تصميم سلسلة التوريد الصينية للسيارات الكهربائية كجزء من استراتيجية صناعية متكاملة وشاملة، ولا يوجد في أوروبا شيء مماثل لذلك”.
لكن السوق الحرة في أوروبا لا ترغب في تبني نموذج الرأسمالية الحكومية الصينية، وبدلاً من ذلك، اتفقت دول الاتحاد الأوروبي على فرض رسوم جمركية تصل إلى 45% على واردات السيارات الكهربائية الصينية، بحجة أن الإعانات الكبيرة للشركات الصينية المحلية تجعل المنافسة غير عادلة.
الابتكار وراء النجاح الصيني
قال شون شو، الرئيس التنفيذي لعلامتي “أومودا” و”جايكو” لدى شركة “شيري” الصينية، إن نجاح شركات السيارات الصينية لم يكن نتيجة السياسات الحكومية فقط، مشيراً إلى أن العلامات التجارية الصينية الكبرى استثمرت بشكل كبير في تطوير التكنولوجيا الجديدة.
وأضاف أن “المستهلكين يشترون السيارات الكهربائية والهجينة بسبب التكنولوجيا المتقدمة الموجودة فيها، وهذا النوع من الابتكار يمكن أن يجذب المستهلكين أيضاً في أسواق أوروبا والمملكة المتحدة”.
وأوضح شو أن “جميع العلامات التجارية الصينية، خاصة العلامات الكبرى، استثمرت بشكل كبير في تطوير التكنولوجيا الجديدة”، مشيراً إلى أن المستهلكين الآن يشترون السيارات الكهربائية والهجينة بقدر ما يركزون على التكنولوجيا المدمجة فيها مثل أي جانب آخر من السيارة.
وأضاف أن “هذا النوع من الابتكار التكنولوجي يمكن أن يقدم فوائد كبيرة للمستهلكين، ويمكن أن يحدث ذلك أيضاً في أسواق المملكة المتحدة وأوروبا”.
تجربة النرويج
في النرويج، الدولة الوحيدة في أوروبا التي نجحت في التحول إلى السيارات الكهربائية بشكل كامل، وصلت نسبة السيارات الكهربائية إلى 94% من السيارات المباعة في أكتوبر.
لكن هذا النجاح اعتمد على إعفاءات ضريبية ودعم حكومي ضخم، ما يجعل التجربة باهظة التكاليف وغير مستدامة.
وفرت الحكومة النرويجية مزايا مثل تخفيض رسوم الوقوف والطرق، إلى جانب حوافز ضريبية سخية لاختيار السيارات الكهربائية بدلاً من سيارات البنزين، كما ساعدت في بناء بنية تحتية شاملة للشحن.
ومع ذلك، بدأت النرويج في تقليص الدعم تدريجياً في العام الماضي، بعد تجاوز تكلفته 4 مليارات دولار في عام 2022، لكنها ما زالت تواجه صعوبة في تقليل اعتماد المستهلكين على هذه الحوافز الكبيرة.
آفاق السيارات الكهربائية في أوروبا
بينما تتراجع بعض الدول الأوروبية عن تقديم الحوافز، تراجع أخرى القوانين الصارمة.
ففي المملكة المتحدة، تفكر الحكومة في تخفيف متطلبات شركات السيارات للوصول إلى أهداف مبيعات السيارات الكهربائية.
وفي الاتحاد الأوروبي، تضغط الشركات لتمديد فترات الامتثال لتلبية أهداف خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
رغم التحديات، هناك تفاؤل في الصناعة بأن الثورة الكهربائية لا تزال ممكنة، حيث تخطط شركات مثل “رينو” و”ستيلانتس” و”فولكس واجن” و”تويوتا” و”هيونداي” لإطلاق عشرات الطرازات الكهربائية العام المقبل لتلبية قوانين الانبعاثات الأكثر صرامة في الاتحاد الأوروبي، وبعض هذه السيارات سيكون ميسور التكلفة، بأسعار تقل عن 25,000 يورو.
وتشير الدراسات إلى أن المستهلكين الذين ينتقلون إلى السيارات الكهربائية نادراً ما يعودون إلى سيارات البنزين، بفضل هدوئها وتسارعها المميز وتوفيرها التكاليف على المدى الطويل.
وفي المدى القريب، ستركز الصناعة على تطوير سيارات بأسعار معقولة، حتى لو تطلب ذلك الاعتماد على بطاريات من شركات صينية لتخفيض التكاليف.
وكما قال المحلل ماتياس: “ما يبحث عنه جميع المصنعين الآن هو تخفيض التكاليف لأن المستهلكين يريدون سيارة جيدة بغض النظر عن نوعها”.