الحكومات بحاجة لتوجيه مواردها المحدودة نحو رأس المال الاجتماعي والبنية التحتية الحيوية
عندما تنقشع غمامة الحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ستجد الاقتصادات الأفريقية وغيرها في الجنوب العالمي نفسها الأكثر تضرراً، في عالم تقل فيه الخيارات المتاحة لدفع عجلة التنمية.
قد يُنذر ذلك بفصل شتوي قاسٍ، لكن اللحظة تتطلب تقييماً صريحاً للذات وتفاؤلاً واقعياً، لا تشاؤماً أو استسلاماً.
شهد الجنوب العالمي ، العام الحالي، تزايداً في حالة عدم اليقين، إذ واجهت دول أفريقيا جنوب الصحراء ضغوطاً داخلية وخارجية كبيرة تهدد تعافي ما بعد جائحة كورونا وتهدد بعكس مسار مكاسب اقتصادية امتدت لعقدين.
ولا تزال العديد من الدول تعاني من تكاليف الاقتراض المرتفعة، إذ وصلت مدفوعات خدمة الدين الخارجي في أفريقيا إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عقدين.
وزاد من معاناتها أن واشنطن فرضت أو هددت بفرض رسوم جمركية كبيرة، ستكون مدمرة للاقتصادات الأفريقية المعتمدة على التصدير، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
وفي الوقت نفسه، جعلت حالة عدم اليقين في السياسات لدى الاقتصادات المتقدمة، من الصعب على الحكومات الأفريقية الاعتماد على أشكال الدعم التقليدية الخارجية.
ومع استمرار النزاعات المسلحة داخل القارة وخارجها، قلص كبار المانحين بشكل حاد، المساعدات الإنمائية الرسمية، ومن المتوقع أن تتعرض لمزيد من التخفيضات، ما سيصيب الدول الأفريقية بالضرر الأكبر.
وبعد تراجع المساعدات بنسبة 9% عام 2024، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تراجعاً إضافياً بين 9% و17% في عام 2025، ما يهدد برامج أساسية في الصحة والتعليم تدعمها المساعدات في أنحاء القارة.
على الصعيد المحلي، تقلصت الخيارات المالية المتاحة للعديد من الحكومات بسبب ارتفاع تكلفة خدمة الدين، التي غالباً ما تفوق الإنفاق على الصحة أو التعليم.
وتزداد الأمور سوءاً بوجود فجوة ضخمة في البنية التحتية، إذ إن ما يقارب نصف سكان أفريقيا جنوب الصحراء لا يحصلون على الكهرباء.
كما ظل نمو الوظائف غير كافٍ، رغم أن القارة تحتضن 11 من أسرع 20 اقتصاداً نمواً في العالم.
وتوفر أفريقيا 3.7 مليون وظيفة سنوياً فقط، في حين تحتاج بين 10 و12 مليون وظيفة لاستيعاب القوى العاملة المتنامية بسرعة، وهو ما يغذي حالة السخط المتصاعدة، خصوصاً بين الشباب، نتيجة ضعف فرص العمل وسوء المساءلة العامة.
ليست هناك حلول سريعة لهذه الأوضاع، فجهد تعاوني ومستدام بات ضرورياً لتغيير هذا المسار.
ومن المؤكد أن نظاماً تجارياً عالمياً يمكن التنبؤ به أصبح أساسياً.
فرغم أن حصة أفريقيا جنوب الصحراء من التجارة العالمية صغيرة، إلا أنها تعتمد بشكل كبير على التجارة الخارجية بنسبة تعادل نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعلها شديدة التأثر بأي صدمات في سياسات التجارة العالمية.
وللأسف، فإن قانون النمو والفرص في أفريقيا، الذي سمح لما يصل إلى 35 دولة أفريقية بالتجارة مع الولايات المتحدة، ينتهي في سبتمبر، وقد تجاوزه بالفعل فرض الرسوم الجمركية الأحادية.
تحتاج الحكومات الأفريقية إلى توجيه مواردها المحدودة نحو رأس المال الاجتماعي والبنية التحتية الحيوية.
وعليها العمل بشكل عاجل على استقرار اقتصاداتها عبر تقوية الأسواق المحلية، وتعزيز المؤسسات والمساءلة، وحماية الفئات الهشة.
ووفقاً للبنك الدولي، فإن 35% من البالغين في أفريقيا جنوب الصحراء يدخرون الآن عبر قنوات رسمية بفضل انتشار الأموال عبر الهاتف المحمول.
كما توفر تحويلات المغتربين دعماً مهماً وقد تجاوزت حجم المساعدات والاستثمارات الأجنبية المباشرة مجتمعة.
وسيكون تنويع الشركاء التجاريين والقطاعات الاقتصادية، ودفع التكامل الإقليمي، عناصر حاسمة لتعزيز القدرة على الصمود الاقتصادي.
ولكي تزدهر أفريقيا فعلاً، يتعين تسريع إصلاح الهيكل المالي العالمي، إذ يجب إعادة تهيئة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتأدية الغرض منهما بفاعلية أكبر، مع تحسين الحوكمة وشبكات الأمان.
كما أن هناك حاجة إلى إصلاحات أعمق لوكالات التصنيف الائتماني لزيادة شفافيتها ومعالجة فروق المخاطر العالية التي تتحملها الحكومات الأفريقية، مع مواءمة تكاليف الاقتراض والتصنيفات الائتمانية والمعايير التنظيمية المصرفية مع الاتجاهات التاريخية بدلاً من الانطباعات المسبقة.
وأخيراً، هناك حاجة ملحة إلى إعفاء شامل من الديون يتجاوز الإطار القطري لمجموعة العشرين، كما أُشير إليه في مؤتمر تنموي عُقد مؤخراً في إشبيلية، فمن شأن ذلك أن يوقف التدهور المستمر في الدول المثقلة بالديون.
وكما أشار جون ماينارد كينز في نقده الاستشرافي لشروط العقوبات المفروضة على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فإن مثل هذا الإعفاء اليوم قد يقي العالم عواقب وخيمة، إذ لا يمكن احتواء تداعيات الفقر وانهيار الحكومات داخل الحدود الوطنية.
ستكون التحديات الاقتصادية العالمية أكثر وقعاً في أفريقيا، وحان الوقت لكي تتكاتف جميع الدول لتعزيز الآفاق الاقتصادية للقارة، وإلا فلن يكون هناك رابحون.








