في عالم الإدارة والاستثمار، لا تختلف الضوضاء الذهنية عن ضوضاء السوق؛ كلاهما يطمس الإشارات الحقيقية وسط سيل من التفسيرات والانفعالات.
وبينما نعتقد أننا نرى الواقع كما هو، فإن الحقيقة أننا لا نراه إلا من خلال مرآة عقولنا، المشوَّهة بما نفضّله ونخشاه ونألفه، هذه المرآة تصنع واقعًا خاصًا لكلٍّ منا، يجعل من الفهم الحقيقي مهمة تحتاج إلى شجاعة أكثر من الذكاء.
القرار الحكيم لا يُبنى على سرعة الرد، بل على عمق الفهم، وهذا العمق لا يتحقق إلا حين نُصغي حقًا: لما يُقال، ولِما لا يُقال، ولِما يدور داخلنا ونحن نسمع.
العقل بطبيعته لا يعيش إلا في اللحظة الحاضرة، لكنها لحظة نادرًا ما يُصغي لها، نحن نميل إلى الانجذاب للماضي بحثًا عن يقين مألوف، أو الهروب إلى المستقبل بحثًا عن طمأنينة لم تأتِ بعد.
وفي الحالتين نفقد الحاضر ـ الزمن الوحيد الذي يمكن الفعل فيه ـ لصالح ضجيج داخلي لا يتوقف.
وهنا يبدأ الغبار في التراكم: غبار الأفكار القديمة، وغبار الافتراضات التي لم نراجعها منذ زمن، وغبار الانحيازات التي تمنحنا الراحة لكنها تسرق منا الوضوح.
ولأن عقولنا تميل إلى الراحة لا إلى الحقيقة، فهي تبني لنفسها حواجز غير مرئية تحميها من التغيير تشمل: انحياز التأكيد: حين نبحث فقط عما يؤيد رأينا، لا ما يختبره.
وانحياز التوافر: حين نصدق المعلومة الأسرع في الوصول لا الأدق في المصدر، وتأثير الإطار: حين نعيد تشكيل الواقع بما يتناسب مع شعورنا لا مع مضمونه، وانحياز البداية: حين نتمسك بما اعتدناه حتى لو تجاوزته الحقائق.
هذه الانحيازات ليست مجرد أخطاء تفكير، بل آليات بقاء فكرية، تمنحنا الإحساس بالثقة والسيطرة، لكنها في المقابل تضعنا داخل دائرة مغلقة من الرأي المسبق والتفسير المريح.
وما لم نتعلّم الإنصات لأنفسنا قبل الآخرين، سنظل ندور في غرفة من المرايا، نرى انعكاس آرائنا لا الحقيقة نفسها.
الإنصات كميزة قيادية
الإنصات الفعّال ليس مهارة شخصية فقط، بل نظام إدارة معرفة حيّ داخل أي مؤسسة. هو ما يسمح للقائد أن يقرأ الواقع بعيون فريقه لا بعينه فقط.
الإنصات الجيد لا يعني الصمت أو المجاملة، بل تحويل الحوار إلى وسيلة استكشاف جماعي للمعنى.
ويتكوّن الإنصات القيادي من ثلاث آليات مترابطة: أولها الإنصات الإدراكي (Cognitive Listening): وهو قدرة القائد على التقاط المعنى خلف الكلمات، وربط ما يُقال بالسياق الاستراتيجي للمنظمة.
القائد هنا لا يسمع الجمل فقط، بل يقرأ الاتجاهات الخفية في حديث الناس، ويحوّلها إلى إشارات على ما يحدث فعلًا داخل الثقافة التنظيمية.
والإنصات العاطفي (Emotional Listening):وهو القدرة على التقاط النغمة، الصمت، والإشارات غير اللفظية، فالقائد الذي يمتلك هذه المهارة لا يكتفي بفهم ما يُقال، بل يشعر بما يُقصَد، فيستوعب دوافع الآخرين ومخاوفهم، ويصنع بيئة تواصل آمنة تُخرج أفضل ما في فريقه.
وأخيراً الإنصات البنّاء (Active Listening): وهو المرحلة التي يتحول فيها الفهم إلى فعل، عندما يسأل القائد سؤالًا توضيحيًا، أو يعدّل قرارًا بعد سماع رأي جديد، أو يفتح مساحة للنقاش الجماعي، فإنه لا “يستمع” فحسب، بل “يبني” معرفة مشتركة تشارك في صياغة القرار.
هذه المكونات لا تعمل تلقائيًا؛ تحتاج إلى تدريب مستمر وقياس وتحفيز داخل ثقافة العمل. فالمؤسسة التي لا تُكافئ الإنصات الجيد ستدفع قادتها إلى القرارات السريعة لا الدقيقة، وإلى الدفاع لا الفهم.
قياس الإنصات كمؤشر لفعالية القيادة
في المؤسسات المتقدمة، أصبح ما يُعرف بـ مؤشر الإنصات القيادي (Leadership Listening Index) جزءًا من أدوات تقييم الكفاءة الإدارية.
فلم يعد الإنصات يُقاس بالانطباع، بل عبر بيانات يمكن رصدها ومقارنتها: مثل استطلاعات ثقة الفريق: وهي مدى شعور الموظفين بأن قائدهم يصغي لهم بجدية، وأن آراءهم تُحدث فرقًا.
ومعدل زمن التفاعل في الاجتماعات: كم دقيقة يتحدث القائد مقارنة بما يتيحه للآخرين؟، وتحليل القرارات التنفيذية: كم عدد القرارات التي تغيّرت أو تطورت بناءً على ملاحظات أو أفكار من الفريق؟
وتقييم جودة الأسئلة: فالقائد المتميز يُقاس أحيانًا بنوعية الأسئلة التي يطرحها، لا بعدد الإجابات التي يملكها.
هذه المؤشرات تُظهر بوضوح أن الإنصات ليس أسلوب تواصل فحسب، بل معيار لذكاء القيادة وفاعلية القرار.
القائد الذي لا يُنصت لا يرى سوى نصف الصورة، وغالبًا ما يُدار من ضجيج افتراضاته لا من صوت الواقع.
نحو قيادة أكثر وضوحًا
القيادة في جوهرها ليست سباقًا نحو الصواب، بل رحلة نحو الفهم، من يسعى إلى أن يكون دائمًا على حق، يفقد القدرة على التعلم، ومن ينصت ليتعلم، يكتسب بصيرة تتجاوز حدود الموقف الواحد.
وكما يُنظّف الزجاج كل يوم ليظل شفافًا، يحتاج العقل القيادي إلى مراجعة مستمرة — لا لأنه أخطأ، بل لأن الغبار لا يتوقف عن التراكم.
فالقيادة الواضحة تبدأ من عقل هادئ قادر على الاستماع دون خوف أو دفاع، وفي عالم تتضاعف فيه المعلومات وتتسارع القرارات، يصبح الإنصات لا رفاهية فكرية، بل شرطًا للبقاء.








