لم يعد الانحراف المعياري مجرد معادلة رياضية تُستخدم لقياس درجة تذبذب الأسعار في البورصة، بل تحول في السوق المصري إلى رقم قادر على تغيير مزاج المستثمرين بين عشية وضحاها. فكل ارتفاع في المؤشر يُقرأ كإنذار بالخطر، وكل انخفاض يُفسر كفرصة مؤقتة للشراء، لتتحول البورصة إلى ساحة تتأرجح فيها القرارات بين الخوف والطمع، بعيدًا عن المنطق والاستراتيجيات الاستثمارية طويلة الأجل.
ورغم ما يتمتع به السوق من فرص واعدة، فإنه يظل أسيرا لحركة أرقام لا تُقرأ بوعي كافٍ، يقودها الانحراف المعياري – مؤشر التذبذب الأكثر استخدامًا في التحليل الفني – الذى أصبح في نظر كثير من المتعاملين بوصلة نفسية أكثر منه أداة فنية.
والانحراف المعياري هو مؤشر إحصائي يقيس مدى تباعد أسعار الأسهم عن متوسط العائد خلال فترة معينة، ويُستخدم عادة لتقدير مستوى المخاطر المرتبطة بالسهم أو السوق ككل، فكلما ارتفع المؤشر دل ذلك على ارتفاع درجة التقلب وعدم الاستقرار والعكس صحيح، لكن المشكلة – بحسب محللين – لا تكمن في المؤشر نفسه بل في طريقة تفسيره داخل السوق المصرى.
وأجمع المتعاملون على أن ضعف الثقافة الاستثمارية يجعل المستثمرين يتعاملون مع الأرقام الفنية بعاطفة أكثر من المنهجية، فعوضًا عن النظر إلى الانحراف المعياري كأداة لتقدير المخاطر وإدارة المحافظ، أصبح يُستخدم كمؤشر للخوف، ما يؤدي إلى ممارسات استثمارية متقلبة ترفع من درجة التذبذب ذاته الذي يُفترض بالمؤشر قياسه.
عجينة: ضعف الوعي يدفع المتعاملين إلى اتخاذ قرارات انفعالية
ويرى مهاب عجينة، رئيس قسم التحليل الفني بشركة «بلتون» لتداول الأوراق المالية، إن الانحراف المعياري أصبح لدى كثير من المستثمرين رقمًا مخيفًا أكثر من كونه أداة للتقييم، لأن الافتقار إلى الوعي بأهداف الاستثمار يدفع المتعاملين إلى اتخاذ قرارات انفعالية مبنية على التذبذب اللحظي لا على الاتجاه العام.
وأضاف أن دخول عدد كبير من المستثمرين الجدد دون دراسة كافية لطبيعة السوق أو تحديد واضح لأهدافهم الاستثمارية جعلهم أكثر عرضة للخسائر، مشيرًا إلى أن بعض الأسهم التي تبدو مستقرة حاليًا مرت بموجات تذبذب حادة في فترات سابقة، ما يؤكد أن قراءة المؤشرات بمعزل عن السياق الزمني قد تقود إلى استنتاجات مضللة.
وأشار عجينة إلى أن غياب تحديد الأهداف الاستثمارية منذ البداية يدفع المستثمرين إلى قرارات غير منضبطة، إذ يتعامل كثيرون مع تحركات الأسعار اليومية كما لو كانت اتجاهات دائمة، دون إدراك أن الانحراف المعياري لا يقيس اتجاه الصعود أو الهبوط، بل فقط مدى اتساع الحركة حول المتوسط، مشيراً إلى أن قياس نسبة العائد إلى المخاطرة يمثل أحد أهم العناصر في بناء القرارات الاستثمارية السليمة، غير أن أغلب المستثمرين الأفراد يركزون على العائد دون حساب المخاطر، ما يضاعف من حدة الخسائر حين تتغير الظروف السوقية.
إسماعيل: حجم السيولة هو العامل الحاسم في تحديد درجة التذبذب
وذكر محمد إسماعيل، رئيس قسم التحليل الفني بشركة «سيجما» لتداول الأوراق المالية، أن حجم السيولة هو العامل الحاسم في تحديد درجة التقلب والانحراف المعياري داخل السوق، موضحًا أن الأسهم ذات السيولة المرتفعة تميل إلى تسجيل تقلبات أقل، إذ تتيح الكميات الكبيرة من التداول امتصاص الأوامر دون تغيرات حادة في الأسعار، بينما تعاني الأسهم الصغيرة من تذبذبات حادة نتيجة ضعف السيولة، ما يرفع مستويات الانحراف المعياري بشكل مصطنع لا يعكس بالضرورة خطورة حقيقية.
وأشار إسماعيل إلى أن السوق المصري بمر حاليًا بفترات من التحرك العرضي تتسم بانخفاض مستويات التقلب، إلا أن الحساسية الزائدة تجاه الأخبار أو القرارات المفاجئة تجعل الانحراف المعياري يتحرك بسرعة خارج نطاقه الطبيعي، خاصة في ظل هيمنة التداولات الفردية قصيرة الأجل على المشهد.
ورغم النمو الملحوظ في أحجام التداول خلال فترات معينة، فإن البورصة المصرية ما زالت تعاني من غياب الاستثمار طويل الأجل، وهو ما يفسر استمرار التذبذب الحاد في المؤشرات والأسعار.
أبوغنيمة: سرعة دخول وخروج الأموال تعرقل تكوين اتجاهات مستقرة
وقال باسم أبوغنيمة، رئيس قسم التحليل الفني بشركة «عربية أون لاين» لتداول الأوراق المالية، إن نمط المضاربات السريعة ومحاولات اقتناص المكاسب اللحظية يرفع مستويات الانحراف المعياري، لأن الأموال تخرج من السوق بنفس سرعة دخولها، ما يعرقل تكوين اتجاهات مستقرة ويزيد من حساسية المؤشر الرئيسي لأبسط المؤثرات.
وأضاف أن المؤسسات الاستثمارية غالبًا ما تستفيد من هذه الحالة، إذ تعيد تمركز محافظها بناءً على تقلبات الأسعار لتحقيق مكاسب من التحركات السريعة، في حين يجد المستثمر الفرد نفسه أمام قرارات مرتبكة بين البيع والشراء دون استراتيجية واضحة.
وأوضح أن الأسهم الأكثر تذبذبًا في السوق عادة ما ترتبط بقطاعات المضاربة مثل بعض أسهم العقارات الصغيرة أو الشركات الخدمية محدودة النشاط، في حين تحافظ الأسهم القيادية مثل «التجاري الدولي» و«أبو قير للأسمدة» و«إي فاينانس» على قدر أكبر من الاستقرار النسبي بفضل عمق السيولة والتداول المؤسسي عليها.
عزب: تقييد الشراء بالهامش في فترات ارتفاع المخاطر
وأكد محمد عزب، مدير إدارة المخاطر بالبنك العربي الأفريقي لتداول الأوراق المالية، أن الانحراف المعياري لا يقدم صورة كاملة عن المخاطر الفعلية في السوق، لأنه يفترض أن العوائد تتوزع طبيعيًا، بينما الواقع قد يشهد تقلبات ناتجة عن أحداث غير متوقعة مثل توزيعات الأرباح أو قرارات حكومية، ما يجعل المؤشر غير دقيق في بعض الحالات.
وأوضح أن نحو 32% من البيانات تقع خارج نطاق الانحراف المعياري التقليدي، أي أن المؤشر لا يعكس سوى ثلثي الواقع فقط، ما يعني أن الاعتماد عليه بشكل منفرد قد يؤدي إلى قرارات استثمارية غير واقعية.
وأشار إلى أن بعض الأسهم ذات العائد المرتفع تُصنف أحيانًا على أنها شديدة المخاطر لمجرد ارتفاع درجة تذبذبها، رغم أن تحركاتها ناتجة عن عوامل وقتية أو موسمية.
ولفت عزب إلى أن إدارة المخاطر فى شركات السمسرة تقوم بقياس الانحراف المعياري دوريًا لتحديد نسب التمويل الهامشي للأسهم عالية التذبذب، بحيث يتم تقييد نسب الشراء بالهامش في الفترات التي ترتفع فيها المخاطر لتفادي أي تراجعات مفاجئة.








