تواجه الدول النامية فجوة تمويل ضخمة في مشروعات البنية التحتية المستدامة. فالتقديرات تشير إلى أننا نحتاج إلى أكثر من ٤.٢ تريليون دولار سنويًا لسد هذه الفجوة، ويستحوذ قطاع الطاقة المتجددة وحده على ما يقرب من نصفها. ومع ارتفاع مستويات الديون وتراجع الإيرادات في العديد من الدول النامية نتيجة للظروف الجيوسياسية الصعبة، لم يتبقَّ لدى الحكومات ما يكفي للإنفاق على البنية التحتية. وهنا يظهر دور الشراكة بين القطاعين العام والخاص كأداة ضرورية لتعبئة رأس المال، وتشغيل الطاقات الإنتاجية، ودعم تحقيق التنمية المستدامة بصورة أسرع وأكثر كفاءة.
ووفقًا لأحدث الأرقام، فإن أكثر من نصف مشروعات الشراكة في الدول النامية تُموَّل بنظام التمويل الممزوج الذي يجمع بين تمويل المؤسسات التنموية الدولية ورأس المال الخاص. ويسهم هذا النوع من التمويل في تقليل المخاطر وخفض تكلفة التمويل بنحو 1% في المتوسط مقارنة بالقروض التجارية، كما يساعد على زيادة فترة السداد بنسبة تقارب 30%. أما في الدول الأقل نموًا، فما زالت المشروعات المموَّلة بالكامل من القطاع الخاص أقل من 10%، وهو ما يعني أننا بحاجة إلى حلول تمويلية مبتكرة.
تلعب المؤسسات التنموية مثل البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار دورًا مهمًا في دعم الدول النامية التي تتجه نحو مشروعات الـPPP، خصوصًا في الأسواق ذات المخاطر العالية. لكن في المقابل، يتعين على الحكومات تهيئة البيئة المناسبة من ناحية القوانين والتشريعات التي تطمئن المستثمر وتؤكد أن الدولة شريك موثوق يتمتع برؤية واستقرار.
وعلى سبيل المثال، في الدراسة التي أُعدَّت بواسطة خبراء مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ونُشرت مؤخرًا والتي ساهمت في إعداد جزء منها، تبين أن حجم مشروعات الشراكة يتضاعف في السنوات التي تلي اعتماد أو تعديل قوانين الشراكة في العديد من الدول النامية، بما يعكس استعداد القطاع الخاص ورغبته في الاستثمار متى توفرت تشريعات واضحة ومنضبطة.
لا شك أن مصر -على مستوى المنطقة العربية والإفريقية- تمتلك تجربة مميزة في مجال مشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص. لكن في الوقت نفسه، يجب الاعتراف بأن الطريق لا يخلو من التحديات؛ إذ لا يزال هناك تداخل بين القوانين القطاعية مثل قوانين الكهرباء والمياه والنقل، وهو ما يخلق درجة من التعقيد في الإجراءات والموافقات. والمطلوب هو تبسيط وتوحيد القواعد بحيث يجد المستثمر منظومة واضحة وسريعة بدلًا من التنقل بين جهات متعددة، الأمر الذي تستطيع مصر تحقيقه بسهولة.
وإذا تم تحديث قانون الشراكة الحالي وتبسيط إجراءاته، وتمكين القطاع الخاص من تقديم مشروعات ذات أولوية تنموية، وتوسيع نطاق المشاركة ليشمل التعليم والصحة والتحول الرقمي والطاقة الخضراء، فسنكون أمام نقلة حقيقية في مسار التمويل والتنمية. ومن المهم التأكيد على أن دخول المستثمر -محليًا أو أجنبيًا- في مشروع ما لا يعني “بيع الأصل”، بل يعني تشغيله وزيادة إنتاجيته.
أما المشكلة الحقيقية في مصر -كما تعترف الحكومة نفسها والمؤسسات المالية الدولية- فهي التواجد الكبير للدولة منفردة داخل القطاعات الاستثمارية ومن ضمنها مشروعات البنية التحتية. وهذا الوضع يتطلب تخارج الدولة من بعض المشروعات أو على الأقل استقطاب شركاء من القطاع الخاص لإدارتها.
فقد صرّح الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، بأن مصر استثمرت أكثر من نصف تريليون دولار (25 تريليون جنيه) في مشروعات البنية التحتية خلال العقد الماضي. وهذا رقم حقيقي؛ فخمسة مشروعات كبرى فقط -تمثل نحو 30% من هذا المبلغ- تشمل القطار الكهربائي فائق السرعة، محطات الكهرباء الثلاث العملاقة (بتمويل حكومي وضمانات دولية)، قناة السويس الجديدة (بتمويل وطني)، مجمع بنبان للطاقة الشمسية (وهو نموذج ناجح للشراكة بين القطاعين العام والخاص)، ومترو القاهرة (الممول من مؤسسات دولية) حيث خريطة توزيع تمويل هذه المشروعات أن الموازنة العامة تحملت نحو 55% منها، والتمويل الدولي 30% (قروض واجبه السداد)، بينما بلغت مساهمة الشراكات مع القطاع الخاص نحو 15% فقط. ولذلك يرى المواطن العادي -وبحق- أن هذه المشروعات لم تُترجم إلى أثر مباشر على حياته، بل أصبحت عبئًا ماليًا إضافيًا، فضلًا عن أنها تحتاج إلى تكلفة صيانة ضخمة حال استمرار الدولة في إدارتها.
ونتفهم رؤية الحكومة القائمة على أن “المصنع لا يقوم في فراغ”، وأنه يحتاج إلى طرق وموانئ وطاقة ومياه واتصالات -وهي مسئوليات أساسية للدولة- إلا أن نموذج التنفيذ نفسه يحتاج إلى مزيد من مشاركة القطاع الخاص.
إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص لم تعد مجرد آلية تمويل، بل أصبحت منهجًا اقتصاديًا كاملًا يجمع بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية.
ومع استمرار جهود الإصلاح، تمتلك مصر اليوم القدرات المؤسسية والبشرية والمالية التي تؤهلها لتكون مركزًا إقليميًا للشراكات الذكية في إفريقيا والعالم العربي – نموذجًا عمليًا للتنمية القائمة على التعاون والثقة المتبادلة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع.








