بالطبع لا أحد ضد استقرار سعر الصرف أو ارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار، كما هو الآن، وعندما يكون ارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار ناتجًا عن ارتفاع قيمة صادراتنا أو زيادة فى إيرادات قناة السويس أو السياحة، فهذا أمر نضرب له تعظيم سلام، ونقول إن اقتصادنا ينمو ويتعافى.
ولكن عندما لا يكون ارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار لهذه الأسباب التى ذكرناها، وأن الارتفاع ناتج عن التدفقات الأجنبية على أدوات الدين، أى من الأموال الساخنة، فهذا يعنى أن ارتفاع الجنيه مؤقت، فاستمرار الارتفاع مرهون باستمرار تواجد الأموال الساخنة، وإذا علمنا أن حجم هذه الأموال الساخنة وصل لنحو 46 مليار دولار بنهاية يوليو الماضى، وهو ما يمثل سيولة مؤقتة تنتهى بخروج هذه الأموال، وللأسف فإن خروجها عادة ما يكون مفاجئًا وصادمًا، لأن هذه الأموال تبحث عن أعلى سعر للفائدة فتتحرك إليه فى أى دولة.. وبالتأكيد وصول هذه الأموال لنحو 46 مليار دولار أدى لاستقرار فى سعر الصرف وانخفاض فى معدلات التضخم، نتيجة انخفاض تكلفة استيراد السلع، ولكنه انخفاض مؤقت سرعان ما يرتد مرتفعًا بخروج الأموال الساخنة من السوق.. ولهذا يجب أن نتوخى الحذر من هذه الأموال الساخنة ولا نعول عليها كثيرًا، فهى لا تقيم اقتصادًا، بل تسكن الأوضاع لفترات قصيرة.
لذلك لابد من استمرار العمل على تنفيذ الإصلاحات الهيكلية وتحفيز بيئة الاستثمار، فنحن نريد استثمارًا مباشرًا، من يبنى مصنعًا يحقق تنمية، لأنه يضخ أموالًا تستمر باستمرار النشاط ويوفر فرص عمل، بينما الأموال الساخنة لا توفر كل هذا.. علينا أن نحفز التصدير وندعم الإنتاج المحلى لينافس فى الأسواق الخارجية.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: المليونيرات الجدد
ويجب أن نتعلم من أخطاء الماضى فيما اعتمدنا اعتمادًا مفرطًا على الأموال الساخنة كمصدر تمويل رئيسى خاصة بعد تعويم الجنيه فى نوفمبر 2016، حيث اعتمدت السياسة النقدية وقتها على جذب استثمارات قصيرة الأجل عبر أدوات الدين وتم رفع أسعار الفائدة عالية لجذب الأموال الساخنة.. وكانت الصدمة فى مارس 2020 ومع بداية جائحة كورونا خرج نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر خلال أسابيع.
وتكرر الأمر فى 2022 بعدما رفع الفيدرالى الأمريكى سعر الفائدة فخرج أكثر من 22 مليار دولار من مصر، ما أدى إلى ضغط شديد على الجنيه ونقص فى المعروض من الدولار وظهور موجة تضخمية مازلنا نعانى منها حتى الآن.
وكل هذه الأخطاء فى التعامل مع الأموال الساخنة وما تبعها من أضرار على الاقتصاد القومى؛ بسبب عدم وجود آلية تحوط أو خطة طوارئ للتعامل مع الخروج المفاجئ للأموال الساخنة، الأمر الذى أدى لاستنزاف الاحتياطيات الأجنبية لحماية الجنيه مؤقتًا.. وللأسف لم يكن البنك المركزى شفافًا بشكل كافٍ بشأن حجم الأموال الساخنة ومخاطرها ولم يوضح هيكل تدفقات رأس المال ومصادر الضغط على الاحتياطى، وكل ذلك قد أسهم فى زعزعة الثقة، خاصة عند ظهور فجوة بين السعر الرسمى والسوق الموازى، فارتفعت المضاربات.. ونعتقد أن الإدارة الحالية للبنك المركزى قد أدركت واستوعبت أخطاء الماضى فى التعامل مع الأموال الساخنة.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: مذكرات رجال الأعمال
ولسنا وحدنا من عانى من أضرار الأموال الساخنة… ففى الأزمة المالية العالمية 1997 أو أزمة النمور الآسيوية خرجت الأموال الساخنة من إندونيسيا بصورة مفاجئة، ما أدى لانهيار العملة الإندونيسية وزعزعة الاستقرار المالى، وفى تركيا عام 2018 شهدت الليرة التركية هبوطًا حادًا نتيجة خروج الأموال الساخنة من أدوات الدين… كذلك الأمر فى البرازيل والأرجنتين.
ومن هنا تبدو أهمية وجود آلية تحوط أو خطة للتعامل مع الخروج المفاجئ للأموال الساخنة من خلال استغلال الفوائض المؤقتة الناتجة عن تدفق الأموال الساخنة لبناء احتياطيات نقد أجنبى تحمى الاقتصاد عند حدوث خروج مفاجئ لهذه الأموال.
فلابد أن نتعامل مع الأموال الساخنة على أنها وسيلة دعم مؤقتة لاقتصادات الدول الناشئة، وأنها ليست بديلة عن الإصلاح الهيكلى الحقيقى.. وأن تجربتنا مع هذه الأموال دون موازنة المخاطر قد أدت إلى ضغوط متكررة على العملة وسعر الصرف.
إننا نحتاج لاستراتيجية أكثر توازنًا تجمع بين كيفية الاستفادة من هذه الأموال دون الوقوع فى فخ التبعية لها.








