أوصت دراسة علمية حديثة، بتأسيس أنظمة وطنية موثوقة للرصد والتحقق من الانبعاثات، يتم توحيدها على مستوى القطاعات والمصانع، وربطها بمراكز فنية معتمدة، لضمان قبول البيانات من جانب السلطات الأوروبية.
وقالت الدراسة الصادرة عن مجلة الاقتصاد الدولي والسياسات الاقتصادية وأعدّها كلّ من ياسمين كمال، ومحمود محيي الدين، ومريام رمزي، إنه يجب إطلاق أدوات تمويلية ميسّرة مخصصة للتحول الأخضر، تشمل قروضاً طويلة الأجل، وصناديق تمويل مشتركة، وبرامج ضمان ائتماني.
وتستهدف هذه الأدوات على وجه الخصوص، الشركات الصغيرة والمتوسطة، بجانب تقديم حوافز ضريبية أو دعم مباشر للاستثمارات البيئية، لتقليل الفجوة بين التكلفة الأولية والعائد طويل الأجل.
ويطبق الاتحاد الأوروبي “آلية تعديل حدود الكربون” عبر مرحلتين، الأولى انتقالية بدأت في 1 أكتوبر 2023، وتتطلب الإبلاغ عن انبعاثات الكربون للمنتجات المستوردة دون قيود مالية، بينما المرحلة النهائية ستبدأ من 1 يناير 2026.
وأوصت الدراسة بإطلاق برامج تدريب واستشارات لرفع كفاءة الإدارة البيئية داخل الشركات، بما يعزز قدرتها على وضع أهداف واضحة ومتابعتها بشكل منظم.
اقرأ أيضا: وزير الصناعة يستعرض الخطة التنفيذية العامة لآلية تعديل حدود الكربون
وخلص الباحثون إلى أن مصر تمتلك عناصر مهمة للانطلاق نحو توافق أوسع مع متطلبات آلية حدود الكربون، لكن الطريق مازال طويلاً، فبين وعي إداري متنامٍ، وخطوات فنية أولية، وغياب آليات موثوقة للقياس، وندرة التمويل طويل الأجل، تظل الشركات المصرية في موقف يحتاج إلى دعم مؤسسي عاجل ومتواصل.
أظهرت الدراسة، أن نجاح مصر في مواجهة تحدي ضريبة الكربون الأوروبية لن يتحقق فقط من خلال الشركات، بل يتطلب شراكة حقيقية بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع الدولي، لتأمين التمويل، وتطوير القدرات الفنية، وبناء منظومة قياس شفافة وموثوقة، تحمي تنافسية الصادرات المصرية وتفتح لها آفاقاً أوسع في الأسواق العالمية.
وبينما يواصل الاتحاد الأوروبي تطبيق “آلية تعديل حدود الكربون”، وهي الأداة التي تفرض رسوماً على الواردات ذات الانبعاثات المرتفعة، تكشف الدراسة عن صورة دقيقة لوضع الشركات المصرية في القطاعات الأكثر تأثراً، بين استعداد إداري وفني جزئي، ومخاوف مالية وتقنية قد تعيق الامتثال الكامل.
وتناولت الدراسة بالتفصيل مدى جاهزية الشركات المصرية للتعامل مع متطلبات الآلية الأوروبية، اعتماداً على تحليل بيانات استقصائية على مستوى الشركات، بالإضافة إلى نقاشات ميدانية مع ممثلين عن شركات تصدّر بالفعل إلى السوق الأوروبية في قطاعات الأسمنت، والحديد والصلب، والأسمدة.
%31 من الشركات لم تتخذ أي خطوة خضراء
اعتمدت الدراسة على بيانات مسح الشركات التابع للبنك الدولي لعام 2020، وشملت عينة مكوّنة من 455 شركة مصرية عاملة في القطاعات المستهدفة من آلية تعديل حدود الكربون الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وأظهرت النتائج أن نحو 31% من هذه الشركات لم تتخذ أي إجراء بيئي خلال السنوات الثلاث السابقة للمسح.
في المقابل، تبنّت 36% من الشركات إجراءً أو 2 فقط، بينما وصلت نسبة الشركات التي نفذت 5 إجراءات أو أكثر إلى 14% فقط، وهو ما يشير إلى محدودية حجم التبني الشامل للإجراءات البيئية حتى داخل القطاعات المعرّضة بشكل مباشر لضريبة الكربون الأوروبية الجديدة.
تحديث الآلات في الصدارة.. والطاقة المتجددة في المؤخرة
من حيث نوعية الإجراءات، تصدّر تحديث الآلات والمعدات القائمة بنسبة 52.5%، كأكثر التدابير شيوعاً بين الشركات. تلاه تحديث أساطيل النقل بنسبة 33.2%، ثم إدارة النفايات وإعادة التدوير بنسبة 29.2%.
أما الإجراءات الأكثر تطوراً، مثل توليد الطاقة المتجددة في مواقع الإنتاج، فجاءت في مؤخرة الترتيب بنسبة لم تتجاوز 3.5%، وهو ما يعكس فجوة بين ما تطبقه الشركات حالياً وما قد تحتاجه لمواكبة متطلبات آلية حدود الكربون مستقبلاً.
الإدارة الخضراء.. العامل الحاسم
أحد أهم ما توصلت إليه الدراسة أن الإدارة الداخلية للشركات تمثل عنصراً حاسماً في تحديد مدى استعدادها للتحول الأخضر، الدراسة استخدمت مؤشراً مركباً لقياس “الإدارة الخضراء”، يشمل عناصر منها وجود أهداف بيئية ضمن الاستراتيجية، ووجود مسئول عن ملف البيئة، ورصد استهلاك الطاقة، وتحديد أهداف صريحة للطاقة والانبعاثات.
كما أظهرت النتائج أن ارتفاع مستوى هذا المؤشر داخل الشركة يزيد احتمال تبني إجراءات خضراء بنسبة تقارب 13%، مما يرفع عدد الإجراءات البيئية التي تتخذها الشركة بمعدل 1.2 إجراء إضافي في المتوسط.
بمعنى آخر، وجود رؤية بيئية واضحة، ومتابعة داخلية منظمة، يحدث فرقاً فعلياً في سلوك الشركات تجاه التحول الأخضر، حتى في غياب دعم مالي مباشر.
التمويل.. العقبة الأكبر أمام الاستثمارات البيئية
على الجانب الآخر، رصدت الدراسة أن 17% من الشركات المصرية تعتبر أن الوصول إلى التمويل يمثل عقبة كبيرة أمامها.
ورغم أن بعض الإجراءات البيئية لا تتطلب استثمارات ضخمة، فإن التحولات الهيكلية مثل استبدال خطوط الإنتاج أو اعتماد تقنيات احتجاز الكربون أو استخدام الطاقة المتجددة، تحتاج إلى تمويل طويل الأجل بتكلفة معقولة.
قدّرت الدراسة أن غياب التمويل يقلّص احتمالات قيام الشركات باستثمارات خضراء رأسمالية بنحو 11%، وهو تأثير يزداد حدة لدى الشركات الصغيرة، وكذلك في قطاع المعادن والصلب، حيث التكلفة الابتدائية لأي تحول تكنولوجي تكون مرتفعة.
شهادات ميدانية من داخل الشركات
لم تكتف الدراسة بالتحليل الكمي، بل أجرت أيضاً مجموعات نقاش مع شركات مصرية مصدّرة إلى الاتحاد الأوروبي في القطاعات الثلاثة المستهدفة، شهادات ممثلي الشركات كشفت عدداً من النقاط المهمة:
أكدت الشركات أنها نجحت في تلبية متطلبات المرحلة الانتقالية من آلية حدود الكربون حتى الآن، عبر الاستعانة بخبراء ومستشارين خارجيين، وتدريب موظفيها.
لكن في الوقت نفسه، أشارت إلى أن أنظمة الرصد والإبلاغ والتحقق مازالت غير ناضجة أو موحّدة بما يكفي، وهو ما يشكل عقبة حقيقية أمام تقديم بيانات دقيقة وموثوقة عن الانبعاثات.
أغلب الشركات شددت على حاجتها إلى قروض طويلة الأجل بشروط ميسّرة، أو منح أو حوافز استثمارية، من أجل تنفيذ الاستثمارات البيئية المطلوبة، خصوصاً في تحديث الآلات أو التحول إلى مصادر طاقة أنظف.
وأعربت بعض الشركات عن استعدادها للمشاركة في سوق طوعي لتداول شهادات الكربون عبر البورصة المصرية، بشرط توافر قواعد تنظيمية واضحة، وسيولة كافية، وآليات تحقق موثوقة.
ثمة أيضاً قلق متزايد لدى عدد من الشركات من الاعتماد الكبير على السوق الأوروبية، ما دفع بعضها إلى التفكير في تنويع أسواق التصدير لتقليل المخاطر المرتبطة بفرض آلية تعديل حدود الكربون بشكل كامل.
أشارت الدراسة إلى أن أبرز مخاوف الشركات المصرية تتعلق بالتكلفة المالية الكبيرة للامتثال الكامل للمعايير الأوروبية، ونقص البيانات الدقيقة على مستوى سلسلة الإمداد، خصوصاً من الموردين الصغار، الذين قد يجدون صعوبة في تقديم معلومات تفصيلية عن انبعاثاتهم وبلدان منشأ المواد الخام، بجانب خطر فقدان القدرة التنافسية في السوق الأوروبية في حال عدم القدرة على التوافق مع آلية تعديل حدود الكروبان أو تحمل أعباء ضريبة الكربون.








