تبرز المكسيك كواحدة من أكبر جبهات التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين.
من ناحية، تعدّ المكسيك الشريك التجاري الأول لواشنطن وحليفاً استراتيجياً بموجب معاهدة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
لو سألتم أي مكسيكي تقريباً، سيقرّ معظمهم بسهولة بأن مستقبل بلادهم يعتمد على تكامل أعمق مع جارتهم الشمالية – لأسباب استراتيجية وتجارية وثقافية، بل وتاريخية، رغم المظالم القديمة.
لكن في الوقت نفسه، وسّعت الصين بهدوء نطاق وجودها في ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية من خلال الاستثمار والواردات الرخيصة بطرق غير مفهومة تماماً بين صانعي السياسات والجمهور.
النتيجة: عملية تكامل اقتصادي أكثر تعقيداً -وأحياناً متضاربة- في أمريكا الشمالية، مع بروز الصين كقوة مزعزعة محتملة كبيرة.
يتجلى هذا في الفجوة التجارية الهائلة بين المكسيك والصين.
ففي العام الماضي، استوردت المكسيك ما يقارب 130 مليار دولار من البضائع الصينية، لكنها صدّرت 10 مليارات دولار فقط في المقابل- وهو اختلال مذهل.
رداً على ذلك، أعلنت الرئيسة كلوديا شينباوم حديثاً عن فرض رسوم جمركية تصل إلى 50% على الواردات من الدول التي لا ترتبط باتفاقيات تجارة حرة (أي الصين) بعد ثني شركة ”بي واي دي“ الصينية العملاقة للسيارات الكهربائية عن بناء مصنع محلي.
اعتبر كلا الإجراءين بمثابة عرض من الحكومة المكسيكية لإدارة ترامب دون أي مقابل صريح.
إزالة النشاط الصيني في المكسيك غير واقعي
قد توفر هذه الخطوات غطاءً سياسياً قصير المدى، لكنها لن تحل المعضلة الأساسية.
تود واشنطن أن ترى العمليات الصينية تختفي من المكسيك – لكن هذا ببساطة غير واقعي نظراً لمستوى اعتماد البلاد على المدخلات الصينية.
هذه مشكلة شائعة، ولو كانت الولايات المتحدة تملك عصا سحرية لفك ارتباط اقتصادها بمنافستها الآسيوية، لكانت هزتها ثم وقدمتها بكل سرور إلى جارتها الجنوبية.
لهذا السبب، لن تحل الرسوم الجمركية أحادية الجانب أو التصريحات المتشددة هذه المشكلة في علاقة الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. على المكسيك والولايات المتحدة النظر إلى هذا الأمر كتحدٍّ مشترك، وتذكّروا أن اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا أكثر قيمةً لكلا البلدين من أي علاقة ثانوية.
تلقي دراسة من معهد مونتيري للتقنية، أعدها الباحثون أوجستينا جيرودي وإرنستو شتاين وفرانسيسكو أوردينيز وفيكتور زولواغا، ضوءاً جديداً على عمق هذا التشابك.
من خلال التتبع الدقيق لمئات المشاريع الأجنبية، يقدّر المؤلفون أن الاستثمار الصيني المباشر في المكسيك قد بلغ 21.3 مليار دولار منذ بداية القرن، أي أكثر من سبعة أضعاف المبلغ المعلن في الإحصاءات الرسمية.
وهذا فرقٌ هائلٌ يكشف عن علاقة اقتصادية أعمق بكثير.
لطالما كان هناك شك في فشل المكسيك الإحصائي في رصد المدى الكامل للاستثمار الصيني.
وقد أصبح هذا حقيقةً مزعجةً للمسؤولين في مكسيكو سيتي، الذين يخشون إثارة غضب واشنطن، المهووسة الآن بمواجهة أي نفوذ صيني.
أثر جانبي لحملة رسوم ترامب الأولى
لكن هذا التناقض يعكس أيضاً كيف تعلمت الشركات الصينية التعامل مع وجودها في دائرة نفوذ الولايات المتحدة، بل وإخفاءه أحياناً، لأسباب جيوسياسية.
يفصّل تحليل حديث من الاحتياطي الفيدرالي في دالاس أسبابَ هذه الفجوة بين الحسابات الرسمية والتقديرات الخاصة.
يقدّم بحث معهد مونتيري للتقنية نتيجةً كاشفةً أخرى: كل زيادة قدرها نقطة مئوية واحدة في الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية أدّت إلى زيادةٍ بنسبة 8.2% و8.9% في الاستثمارات الصينية في المكسيك خلال عامي 2023 و2024 على التوالي.
بعبارة أخرى، كان للحرب التجارية التي شنّتها واشنطن في عهد إدارة دونالد ترامب الأولى أثر جانبيٌّ واضح: دفع المصنّعين الصينيين إلى استخدام المكسيك كبوابة خلفية إلى السوق الأمريكية، مع تأخر يتراوح بين ثلاث وخمس سنوات بعد تطبيق الرسوم الجمركية، وفقاً للدراسة.
كتبَ مؤلفون التقرير، الذي نشر حصرياً مع هذا العمود: “حوّلت الشركات الصينية إنتاجها إلى المكسيك كمنصة تصديرية للحفاظ على الوصول إلى السوق الأمريكية مع تقليل تعرّضها للتوترات الجيوسياسية… تشير الأدلة على ردّ الشركات الصينية على الرسوم الجمركية الأمريكية بزيادة إنتاجها في المكسيك إلى أن السياسات التجارية الأحادية الجانب قد تكون محدودة الفعالية عندما تكون مواقع الإنتاج البديلة متاحةً بسهولة”.
تأتي هذه الرؤية في لحظة حاسمة. فمع بدء الاستعدادات للمراجعة القادمة لاتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، أوضح البيت الأبيض في عهد ترامب أن على المكسيك تهدئة علاقاتها المتنامية مع بكين إذا كانت تأمل في إعادة تفاوض سلسة.
أما المطلب الثاني للمكسيك فهو البدء في عكس اتجاه فائضها التجاري المتنامي مع الولايات المتحدة، الذي يشتبه في أنه ناتج جزئياً عن تزايد مشاركة الصين في الاقتصاد المحلي.
علاقات متوترة بين المكسيك والصين
لكن ذلك ليس بالبساطة التي يبدو عليها. بدايةً، لطالما اتسمت علاقة المكسيك بالصين بالقلق.
إن التركيز الصناعي المشترك لكلا البلدين جعلهما متنافسين لفترة طويلة، ولم يسهم التاريخ في ذلك.
على مدى عقود، ظلت العلاقات مسممةً بسبب مذبحة توريون عام 1911، التي قتل فيها أكثر من 300 مهاجر صيني في شمال البلاد.
في عام 2021، أصدر الرئيس آنذاك أندريس مانويل لوبيز أوبرادور اعتذاراً رسمياً، واصفاً الفظائع بأنها “إبادة جماعية صغيرة”.
في بداية القرن، كانت المكسيك آخر اقتصاد رئيسي يؤيد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية – وقد فعلت ذلك على مضض وتحت ضغط أمريكي.
يصعب تجاهل المفارقة الآن: فالحكومة الأمريكية نفسها التي دفعت المكسيك إلى قبول عضوية الصين في نظام التجارة العالمي قبل 25 عاماً، بتكلفة كبيرة على بعض الصناعات المكسيكية، تطالبها الآن بالتراجع عن تلك الروابط.
لقد أدت الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن على السلع الصينية إلى تسريع اتجاهات التقارب – ما دفع رأس المال الصيني فعلياً إلى الاقتراب.
بدلاً من مطالبة المكسيك بالتضحية بعلاقاتها مع الصين بين عشية وضحاها، ينبغي على واشنطن التركيز على تعزيز حصن التجارة في أمريكا الشمالية.
هناك كثير مما يمكن للبلدين فعله معاً على هذا الصعيد، بدءاً من توحيد سياسات الرسوم الجمركية لبعض الشركات وصولاً إلى إنشاء ما يسمى “مناطق حظر” لبعض القطاعات الاستراتيجية ضمن اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
قبل كل شيء، يتعين على الجارتين التحلي بالواقعية: إذ يُرجح أن يستغرق تقليص نفوذ الصين سنوات، إن لم يكن عقوداً.
وكما حدث مع قرار منظمة التجارة العالمية قبل نحو 25 عاماً، ستحدد النتيجة دور المكسيك في النظام التجاري العالمي الجديد.








