تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 30 معدناً وعنصراً يدخل فى صلب التحول الطاقى، من بينها الليثيوم والكوبالت
فى صيف هذا العام، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) خططاً لشراء نحو 7500 طن من الكوبالت، فى خطوة تعيد سياسة تخزين المعادن الحرجة إلى مستويات لم تشهدها الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة.
وجاء هذا التوجه فى ظل تدفق تمويلات جديدة أقرَّتها إدارة الرئيس دونالد ترامب عبر ما عُرف بـ«قانون الفاتورة الواحدة الجميلة الكبرى»؛ حيث يُعد طلب شراء الكوبالت جزءاً من مسعى أوسع تقوده المؤسسة العسكرية لتوسيع احتياطياتها من المعادن الحرجة.
ومنذ يوليو، شرعت وزارة الدفاع الأمريكية فى إبرام عقود لتخزين قائمة متزايدة من المعادن الحرجة، التى تقول الوزارة إنها تدخل فى تصنيع معظم أنظمة الأسلحة التى تستخدمها، بدءاً من الطائرات المسيَّرة والمقاتلات الحربية، وصولاً إلى ترسانة ناشئة من التقنيات العسكرية المتقدمة، مثل منصات القتال ذاتية التشغيل المعتمدة على الذكاء الاصطناعى.
وبالتوازى مع تسريع عمليات التخزين، تنفّذ الوزارة مجموعة أوسع من الإستراتيجيات لتعزيز سيطرتها على سلاسل إمداد المعادن الحرجة، تشمل توسيع العمل بـ«قانون الإنتاج الدفاعى» الذى أُقر فى عهد إدارة جو بايدن لتمويل مشروعات التعدين، فضلاً عن الاستحواذ على حصص ملكية مباشرة فى شركات تعدين ومعادن.
وفى يوليو، وافق البنتاجون على الاستحواذ على حصة بقيمة 400 مليون دولار فى شركة «إم بى ماتيريالز»، المتخصصة فى الموارد الطبيعية، وفى مطلع هذا الشهر، صرّح مسئول فى البيت الأبيض بأن الحكومة الأمريكية تخطط للاستحواذ على مزيد من الحصص فى شركات تعمل فى مجال المعادن الحرجة.ويهدف هذا النهج، فى جوهره، إلى «توطين» الإمدادات وتقليص الاعتماد على المصادر الأجنبية، ولا سيما الصينية.
غير أن المفارقة تكمن فى أن كثيراً من المعادن نفسها التى تُعد أساسية لأنظمة التسليح تُعتبر فى الوقت ذاته ضرورية للتقنيات اللازمة لإزالة الكربون من الاقتصاد، ويثير الطلب العسكرى المتزايد مخاوف من تحويل هذه المواد بعيداً عن قطاعات حيوية لعملية التحول فى مجال الطاقة.
وتشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 30 معدناً وعنصراً يدخل فى صلب التحول الطاقى، من بينها الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة.
وتشكل هذه المواد الأساس المادى للانتقال إلى الطاقة الخضراء؛ إذ تُعد مكونات رئيسية فى تقنيات الطاقة المتجددة، وضرورية لعمليات التحول الكهربائى، حيث تُستخدم فى توربينات الرياح والألواح الشمسية، والأهم من ذلك فى البطاريات التى تخزّن الطاقة المتجددة، وتدعم كهربة وسائل النقل، وتسهم فى استقرار شبكات الكهرباء.
وكان يمكن للعديد من المواد التى تُحوَّل اليوم إلى «المخزون الوطنى للدفاع» أن تُسهم بدلاً من ذلك فى تسريع نشر تقنيات الطاقة المتجددة، فى وقت تتقلص فيه نافذة العمل المناخى وتزداد الحاجة إلى تحرك سريع وحاسم.
وتُعد خطة البنتاجون لتخزين الكوبالت مثالاً واضحاً على ذلك، فالكوبالت عنصر أساسى فى العديد من بطاريات الليثيوم ـ أيون عالية الأداء المستخدمة عبر منظومة التحول الكهربائى، من وسائل النقل الكهربائية إلى أنظمة التخزين على مستوى الشبكات.
وتشير التقديرات إلى أن كمية الكوبالت المخصصة للمخزون الدفاعى الوطنى كان يمكن استخدامها لإنتاج نحو 80.2 جيجا واط/ساعة من سعة البطاريات، أى أكثر من ضعف إجمالى القدرة الحالية لتخزين الطاقة فى الولايات المتحدة.
ولا يقتصر الأمر على الكوبالت وحده، إذ يُعد الجرافيت ـ وهو مكوّن رئيسى آخر فى أنظمة تخزين الطاقة ـ أكبر طلب حديث لوزارة الدفاع، بكمية تقترب من 50 ألف طن.
ومعًا، تكفى كميات الكوبالت والجرافيت المخطط لتخزينها لتصنيع أكثر من 100 ألف حافلة كهربائية، ويمثل هذا الرقم حصة كبيرة من الأسطول اللازم لإعادة تنظيم نظام النقل الأمريكى حول خدمات النقل العام الموسعة.
وللمقارنة، لا يتجاوز عدد الحافلات الكهربائية العاملة حالياً فى الولايات المتحدة 6500 حافلة.
وعلى الرغم من قدرتها الكبيرة على دفع التحول فى مجال الطاقة، تظل المواد الموجودة فى المخزون الوطنى للدفاع موجّهة نحو أولويات عسكرية، ما يحدّ من توظيفها فى الاقتصاد المدنى.
وتعود جذور سياسة تخزين المعادن إلى الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث ارتبطت منذ البداية بالجاهزية العسكرية، ومن هذا السياق نشأ مفهوم «الأهمية الحرجة».
وبموجب القانون الأمريكى، لا يمكن الإفراج عن المواد المخزنة إلا بقرار من الرئيس فى أوقات الحرب المعلنة، أو «لخدمة مصلحة الدفاع الوطنى فقط».
وتشير الاتجاهات الحالية إلى مستقبل قاتم وهش، ففى الوقت الذى تغيب فيه الولايات المتحدة عن محادثات المناخ العالمية، يحتفظ البنتاجون بأكبر ميزانية عسكرية فى العالم، ويُعد أكبر جهة مؤسسية ملوِّثة على كوكب الأرض. ومنذ مفاوضات كيوتو للمناخ عام 1997 ـ حين نجحت الولايات المتحدة فى استثناء البنتاجون من الالتزامات المناخية ـ لا يزال الحجم الهائل للبنية التحتية العسكرية الأمريكية حول العالم يعرقل الجهود المطلوبة للتخفيف من أزمة المناخ.
ومع تحول استخراج المعادن إلى معادلة صفرية على نحو متزايد، وتفاقم آثار التغير المناخي، تواجه الولايات المتحدة خياراً حاسماً، إما الاستمرار فى ضخ الموارد فى جهاز عسكرى آخذ فى التوسع، وإما توجيه هذه الموارد نحو استراتيجية صناعية تحقق منافع عامة، وتُسهم فى استقرار المناخ، وتوفر أساساً لتعاون دولى فى مجال المناخ، بما فى ذلك بين الولايات المتحدة والصين.







