لم يعد الاقتصاد الأخضر مجرد مبادرة بيئية أو فكرة تُطرح فى المؤتمرات الدولية، بل تحول إلى إطار رئيسى يحدد مسار السياسات الاقتصادية والمالية عالمياً.
فالتغير المناخى لم يعد تهديداً بعيد المدى؛ بل واقعاً يفرض نفسه يومياً عبر العواصف والفيضانات وموجات الجفاف، مسبّباً خسائر بمئات المليارات.
وحده عام 2022 شهد خسائر اقتصادية عالمية بسبب الكوارث المناخية بلغت 313 مليار دولار، بحسب تقرير معهد «سويس ري».
التحول نحو الاقتصاد الأخضر لم يعد خياراً بل ضرورة. فمنذ 2010 حتى 2022، جرى ضخ أكثر من 3 تريليونات دولار فى مشروعات الطاقة المتجددة.
وخصص الاتحاد الأوروبى نحو 30% من موازنته 2021 ـ 2027 للمناخ، فيما أنفقت الصين 546 مليار دولار على الطاقة النظيفة خلال عام 2022 فقط، لتتصدر العالم فى هذا المجال.
أمَّا الولايات المتحدة فأطلقت «قانون خفض التضخم» الذى يتضمن استثمارات ضخمة للتحول للطاقة النظيفة بقيمة 369 مليار دولار. هذه التحولات لا ترتبط فقط بالاستثمار، بل بسوق العمل أيضاً.
وتتوقع منظمة العمل الدولية، أن يرتفع عدد الوظائف الخضراء عالمياً من 12 مليوناً فى 2020 إلى 38 مليوناً بحلول 2030، ما يعنى فرصاً جديدة لملايين الشباب فى مجالات الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر والتكنولوجيا النظيفة.
رغم اعتمادها التاريخى على الوقود الأحفورى، لم تبق المنطقة العربية خارج سباق التحول.
وأطلقت السعودية «مبادرة السعودية الخضراء» بخطط واسعة لخفض الانبعاثات، بينما الإمارات استضافت مؤتمر المناخ COP28 وأعلنت عن مشروعات للهيدروجين الأخضر.
أما المغرب بدوره فأصبح من أبرز منتجى الطاقة المتجددة فى أفريقيا.
وتمثل مصر، حالة خاصة؛ إذ تسعى للتحول داخلياً بالتوسع فى الطاقة المتجددة، وفى الوقت نفسه لتكون مركزاً إقليمياً للطاقة النظيفة وتصدير الوقود الأخضر للعالم.
وضعت مصر هدفاً برفع نسبة الطاقة المتجددة إلى 42% من مزيج الكهرباء بحلول 2035.
ولعل أبرز مشروعاتها فى هذا المجال، هو مجمع بنبان للطاقة الشمسية بأسوان، الذى يوصف بأنه «مدينة شمسية» بقدرة 1.8 جيجاوات، وهو من الأكبر عالمياً، ووفّر آلاف فرص العمل أثناء تنفيذه.
كما دخلت مصر بقوة فى ملف الهيدروجين الأخضر.
فحتى منتصف 2023، وقعت مصر أكثر من 20 مذكرة تفاهم مع شركات عالمية كبرى لإقامة مشروعات للهيدروجين والأمونيا الخضراء فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، باستثمارات تتجاوز 45 مليار دولار.
هذه المشروعات لا تستهدف التصدير فقط؛ بل تخلق صناعات وفرص عمل محلية، وتضع مصر على خريطة الطاقة العالمية.
إلى جانب ذلك، أطلقت الحكومة برنامج «التحول الأخضر»، لدمج الاستدامة فى الموازنة العامة، بحيث ترتفع نسبة المشروعات الخضراء إلى 40% بحلول 2030، مقارنة بـ10% قبل سنوات قليلة.
ويمثل قطاع النقل، أحد أكبر مصادر التلوث، وقد بدأت مصر بالفعل التحول فيه، من خلال الخط الأخضر للمترو، والقطار الكهربائى السريع، والأتوبيسات الكهربائية، إضافة إلى التوسع فى محطات شحن السيارات الكهربائية. أمَّا إدارة المخلفات، فتمثل فرصة اقتصادية وبيئية فى آن واحد.
فمصر تنتج نحو 50 مليون طن من المخلفات سنوياً، والتحول لاقتصاد دائرى يتيح إعادة تدويرها وتحويلها إلى موارد وصناعات بدلاً من كونها عبئاً بيئياً. والاقتصاد الأخضر ليس نشاطاً اقتصادياً فقط، بل نشاطاً سياسياً أيضاً.
فمع سعى أوروبا للابتعاد عن الغاز الروسي، تبدو شمال أفريقيا، ومصر تحديداً، خياراً استراتيجياً لتأمين احتياجات القارة العجوز من الطاقة النظيفة.
وهذا يعزز موقع مصر كجسر للطاقة بين أفريقيا وأوروبا، وورقة قوة فى المعادلات الدولية.
ورغم الطموحات، يظل التحول الأخضر محفوفاً بتحديات أبرزها التمويل؛ إذ تحتاج الدول النامية لمليارات الدولارات للاستثمار فى البنية التحتية.
كما أن بعض التقنيات، مثل الهيدروجين الأخضر، ما زالت مرتفعة التكلفة.. ويضاف إلى ذلك أهمية رفع وعى المجتمع وتغيير أنماط الاستهلاك والإنتاج. لكن فى المقابل، المكاسب هائلة.
فالبنك الدولى يقدّر أن التحول الأخضر قد يضيف 26 تريليون دولار للاقتصاد العالمى بحلول 2030. وبالنسبة لمصر، يعنى ذلك استثمارات ضخمة، وتقليل فاتورة استيراد الوقود، وفرص عمل جديدة، وحماية البيئة والمجتمع من آثار التغير المناخى.
الاقتصاد الأخضر لم يعد رفاهية أو أجندة غربية، بل ضرورة وجودية. والدول التى تستثمر فيه اليوم، مثل مصر، لن تجنى فقط عوائد اقتصادية، بل أيضاً مكاسب سياسية واجتماعية تعزز مكانتها فى عصر ما بعد النفط.








